Thursday, 25 September 2014

أبغض الحلال فى تفسير التاريخ

 
ناصر

إذا خرجت الجموع الحاشدة فى مختلف أنحاء مصر تحمل صوره وتردد شعارات تتضمن مواقف وكلمات له، قالوا إنهم السذج المغيبون الذين تجمعهم زُمارة ويفرقهم كرباج!

وإذا تبين أن الاستقلال الوطنى والإرادة الحرة والعدل الاجتماعى وارتباط حرية الكلمة والموقف بحرية الرغيف وحق العمل، وأن التضامن العربى ودور مصر القومى ثوابت أرسيت عمليا وبالممارسة فى عصره وسياساته، وتأكد أن مستقبل الوطن مرتبط بإحيائها والاستمرار فيها والبناء على ما أنجز فى مرحلته، قالوا إنها مضامين بالية، وحتى وإن كانت صحيحة ولازمة فإنه فعلها على حساب الديمقراطية!

وإذا تجدد الحديث عنه بغير توقف، والاحتفاء بذكراه، والإشادة بمبادئه ومواقفه ودوره فى حركة التحرر الوطنى العالمية هناك بعيدا جدا عن مصر - أى فى أمريكا اللاتينية، وفى العمق الإفريقى والآسيوى - قالوا إنهم انطباعيون سطحيون لم يكتووا بنار طغيانه ودكتاتوريته!

وإذا أكدت الدراسات العلمية العالمية الموثقة والموثوقة أن السد العالى هو المشروع الهندسى الأول فى القرن العشرين، وأن التصنيع فى مجالات متعددة كان رياديا فى القارة الإفريقية وفى الشرق الأوسط، وأن الخطة الخمسية الأولى كانت إنجازا محترما، قالوا لكن السد حرمنا السردين واستعدى علينا البنك الدولى والغرب وأمريكا، وأن التصنيع والتنمية والأبعاد الاجتماعية ساعدت على تشويه الحقبة الليبرالية العظيمة فى ظل حكم جلالة الملك ووجود القاعدة البريطانية وتحكم السكرتير الشرقى فى السفارة البريطانية!

وإذا قيل إن تأميم قناة السويس كان قرارا وطنيا بامتياز، وأنه ورغم عدوان 1956 كان الإشارة التاريخية لانحسار وزوال الاستعمار القديم، وأن التاريخ المعاصر يتحدد فى بعض جوانبه بالتمييز بمرحلة ما قبل السويس وما بعد السويس، قالوا إنه كان قرارا أرعن متعجلا، لأن عقد امتياز القناة كان سينتهى حكما عام 1968 وكان لا داعى لهذه «العركة»، فإذا قيل إن عقد «جبل طارق» كان موقوتا أيضا عام 1968 ولم يتركوه حتى الآن، وأنهم لم يثبت أبدا تركهم لاحتكار بأهمية القناة، قالوا: كان علينا أن ننتظر لثمانية وستين وبعدين نشوف!

وإذا قيل إن القوة الناعمة المصرية بلغت ذروة من ذراها فى عهده، فكانت السينما والمسرح والفنون الشعبية والمجلات المفتوحة لمختلف الاتجاهات كالطليعة لليسار الماركسى، والكاتب لليسار القومى، والمجلة للاتجاه الليبرالى، والسياسة الدولية للأكاديميين الجادين، وصفحات الرأى والأدب فى الأهرام لكل هذه الاتجاهات وممثليها من لويس عوض ولطفى الخولى إلى الحكيم ومحفوظ إلى مؤنس وفوزى إلى بنت الشاطئ وكذلك صلاح جاهين وغيرهم، قالوا: إن ذلك كله لا يساوى شيئا فى غياب الديمقراطية الليبرالية العظيمة!

ولقد تعلمت فى مقاعد الدراسة بقسم التاريخ - قبل وبعد الليسانس - ثم خلال الممارسة العملية لحرفة القراءة وهواية الكتابة؛ أنه لا حياد فى المواقف ولا فى المعالجات النظرية للظواهر الإنسانية، اجتماعية وغير اجتماعية، وأنه لا تطابق بين الحياد بمعناه الحرفى وبين الموضوعية، لأن الأخيرة يمكن أن تكون انحيازا بدرجة أو أخرى لتفسير بعينه بناء على ما بين أيدينا من وقائع وشواهد ومسوغات، ووفق ما نستعين به فى بحثنا وقراءتنا من أدوات منهجية، لذا فإنه رغم أن الوقائع والأحداث واحدة فى سياق تاريخى ما فإن الاختلاف فى التحليل والتقييم واستخلاص «الدروس» - إذا جاز التعبير - يختلف بين باحث أو مؤرخ وبين آخر، ومع ذلك إلا أننا قد نصادف بعضا من الذين يكتبون فى الصحافة، وقد نذروا أنفسهم بغير كلل ولا ملل - وكأنه تكليف رسالى من جهة غيبية أو غائبة - للتعريض الهجومى المستمر على ثورة يوليو وعبدالناصر و«العسكر»، كما يحلو لهم أن يسموا جيش مصر العظيم، وكان يمكن أن تتم مناقشة ما يطرحونه، والاتفاق أو الاختلاف مع بعضه، إلا أن المرء يكتشف - وأنا ممن شاء قدرهم أن يشتركوا فى مثل هذه المناقشات ـــ غياب أى قواعد منهجية أو أسس علمية أو حتى مسوغات شبه منطقية عند هؤلاء السادة الذين نذروا أنفسهم لاغتيال يوليو وعبد الناصر ومن يسمونهم «العسكر»!

وعندئذ - وأنا هنا أتحدث عن قناعتى التى تكونت وتبلورت بعد عشرات المناقشات - تعين أن يتجه التفكير إلى أن يختار المرء موقفا من ثلاثة، إما أن يلوذ بالصمت والانشغال بما يفيد، وإما أن يعتبر الأمر حالة فلكورية مسلية وحبذا لو تم تحويل المناقشة إلى استدرار مزيد من الهجوم والانتقاد، أو الرجوع إلى ما يعتبره كثير من أساتذة مناهج البحث «أبغض الحلال فى تفسير التاريخ»، ألا وهو اعتماد العامل النفسى.. وأزعم أنه مفيد أحيانا عندما تكتشف أن بعضهم يكره فى عبدالناصر صورة أبيه الذى ربما كان ناصرى الاتجاه أو الهوى أو من رجالات الحقبة الناصرية، ولأنه لا يجرؤ على «إعدام الأب البطريرك المستبد أو المستهتر» فى نظره فإنه يلجأ للإسقاط على الرمز، وربما تكتشف أن بعضهم يثأر من نفسه هو شخصيا عبر اغتيال مرحلة بعينها من تاريخه الشخصى كان فيها بعثيا أو ناصريا ولم يكن ليبراليا بعد أن ذاق حلاوة ليبرالية باريز وانفتاح السادات، وجادت عليه الأولى بوظيفة فى جامعة، وجاد عليه الثانى بوظيفة فى مطبوعة!

إن الذكرى الرابعة والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر تحل الأحد المقبل، وأكبر تحية له هى بقاؤه محورا للجدل والاختلاف بعد هذه السنين، وخلوده مجددا فى وجدان الجموع الحاشدة التى لم ولن تجمعها زمارة ولم ولن يفرقها كرباج، ودليلى هو 25 يناير و30 يونيو ومن قبلهما ما صنعه الشعب منذ مقاومة بونابرت وحتى يناير 1977.
                                        

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 25 سبتمبر 2014

No comments:

Post a Comment