Thursday, 18 December 2014

مع السيسى فى النصف الملآن من الكأس




استغرقت مناوشات غياب «المنهج والفلسفة» عن الناصرية سنوات من عمرنا، عندما كان يحتدم الحوار بين زملائنا الماركسيين وبيننا، ونستمر سهرانين فى قاعة مجلس اتحاد الطلاب، حيث مقر النادى السياسى الذى أُسس مطلع السبعينيات، وكان من نجومه وأعضائه عديد من الأسماء اللامعة الآن!.. ورغم أن الغلبة العددية والفعالية الواضحة كانت للناصريين فى جامعة عين شمس، إلا أننا كنا نحاول التغلب على نقطة التميز لدى الماركسيين، ألا وهى «المنهج والفلسفة»!، واجتهدنا وصار لنا بدل المنهج مناهج!! وبدل الفلسفة فلسفات، واستعان بعضنا بالإنتاج النظرى للدكتور عصمت سيف الدولة، حيث جدل الإنسان وليس جدل المادة ولا جدل الأفكار!.. وفى هذا السياق الذى اتسع حتى تحدث الأستاذ هيكل ذات مرة وبسرعة عن أن الناصرية ليست نظرية، وجاءت ردود كثيرة كان أبرزها ردا كتبه سعد الدين إبراهيم حول أن الناصرية نظرية اجتماعية مكتملة!

تذكرت ذلك الجدل المضني، وتذكرت جدلاً آخر ثار من قبله بسنين حول ثورة يوليو وقيادة عبد الناصر، وكيف أنهما ليست لهما ملامح نظرية وتوجهات استراتيجية نابعة من رؤية شاملة، وبالتالى لا يمكن النظر إليهما باعتبارهما منتسبين لليسار الاشتراكي.. وكان ذلك عند مطلع الخمسينيات، واستمر حتى بعد صدور فلسفة الثورة إلى أن جاء ميثاق العمل الوطنى عند مطلع الستينيات، أى بعد قيام الثورة بعقد من الزمان، ولأن عبد الناصر لم يزعم لنفسه أنه فيلسوف أو منظر فإنه انصرف إلى الإنجاز على أرض الواقع، ابتداءً من أغسطس 1952 بتحديد الحد الأدنى للأجور والأقصى لساعات العمل، ثم قانون الإصلاح الزراعى الأول، وكان معاونوه مثل محمد فائق، الذى كان آنذاك شابا لم يبلغ الخامسة والعشرين، ومعه أسماء مثل فتحى الديب وغيرهم، يرتبون للتحرك فى الدائرتين الإفريقية والعربية، وفيما عبد الناصر وفريقه الذين لم يكونوا نجوما فكرية ولا ثقافية ماضون فى الإنجاز على أرض الواقع، كان أهل السياسة والفكر والقانون ـــ آنذاك ــــ منشغلين ومتصارعين حول الدستور والأحزاب وخلافه، ويفتكون ببعضهم البعض، وكان النموذج هو السنهورى وسليمان حافظ فى جانب، والوفد فى جانب آخر، بينما كان الماركسيون والشيوعيون منشغلين بتصنيف ما يجرى هل هو انقلاب برجوازى صغير، أم هى رأسمالية الدولة الاحتكارية!

إننى لا أسخر ولا أتهكم، ولكنى أحاول رصد ما حدث فى مرحلة من تاريخ الوطن، وإن كان رصدا سريعا لا يبدو فيه التأصيل الواجب، لكى نحاول الاستفادة من دروسه، ولكى نحاول أن نمضى فى طريقنا الآن دون أن نعيد إنتاج ما أنتجناه! ولذلك فقد أكون مخطئا ومتجاوزا إذا ذهبت إلى أن الإنجاز العملى على أرض الواقع هو رؤية ومنهج بحد ذاته، والإنجاز إما أن يكون مصنعا أو طريقا أو قناة أو سدا أو مدرسة، طالما كان أى منها جاء تلبية لمطلب شعبى أو لاحتياج وطنى يخدم الاقتصاد والدفاع فى آنٍ واحد!..

ثم إننى لا أعلم ـــــ حقا وليس ادعاءً ــــ إذا كان مفهوم المخالفة يمكن أن يعتمد فى حقل الكتابة السياسية، حيث إننا دائما ما تعلمنا ورددنا أن السياسة الخارجية لأى بلد هى انعكاس لأوضاعه الداخلية، وأن هناك تناسبا طرديا بين الداخل وبين الخارج، طيب.. وإذا عكسنا الآية فهل تكون السياسة الخارجية الجيدة والمتنامية والواثقة والمثمرة أساسا لتطور داخلى نامٍ ومطرد فى قوته إذ يكون الداخل عندئذ انعكاسا للخارج؟!!

لقد نجحت مصر فى السنة الأخيرة، بل قل فى المرحلة بعد 30 يونيو أن تتحرك فى أقواس محيطها الخارجي: القوس الإفريقي.. والقوس العربي.. والقوس الأوروبي.. يعنى جنوبا وشرقا وشمالا! يعنى فى الدوائر الإفريقية والعربية والعالمية، بل إن تحركها شرقا تجاوز القوس العربى إلى أقصى الشرق باتجاه روسيا والصين، ونسبيا اليابان والهند.. واستطاعت أن تقدم أوراق اعتمادها من جديد، وأظنها لاقت قبولا معقولا، ولا أقول متميزا رغم ظروفها الداخلية!

لقد امتلكت المحروسة ذات حقبة متميزة من تاريخها نقاطا ستا للعمل الوطني، ثم كتيبا «فلسفة الثورة» فيه تحديد لوضعها ومكانتها ودوائر حركتها، ثم ميثاقا للعمل الوطنى شاركت فى التحضير له ومناقشته، معظم إن لم يكن كل التوجهات السياسية الفكرية، ومع كل ذلك امتلكت تنظيما سياسيا واسعا، وبداخله تنظيم سياسى طليعى محكم، وجناحا للشباب غاية فى الحيوية.. وقائدا كاريزميا نادر التكرار، ومع ذلك أخفقت فى مواجهة عدوها، وبعدها امتلكت القدرة على التصحيح وعلى المواجهة، وجاء بيان فى مارس 1968 يضع نقاطا على حروف لتتضح أبعاد المرحلة.. ثم كان ما كان وانتهت المسيرة على النحو الذى عشناه وعانيناه ودفعنا ثمنه فادحا، ومازلنا ندفعه للآن!

ولن أعرج إلى التجربة السوفيتية، ولا إلى المجتمعات الرأسمالية، حيث انتهت الأولى نهاية عشنا حدوثها، وواجهت الثانية ـــــ ومازالت تواجه ـــــ أزمات واختناقات بلا حصر، حتى بدا الأمر أحيانا وكأنها وصلت إلى طريق مسدود!

سؤالى القلق هو: هل من المحتم على أى تجربة بشرية أن تنشغل بتنظير مسارها تفصيلا «منهجا ـــــ رؤية ـــــ فلسفة»، حتى تضمن النجاح، أم يمكن أن تبدأ بالإنجاز الفعلى على أرض الواقع وباستمرار الإنجاز واتصال نقاطه تنشأ معالم متكاملة، وتظهر ملامح واضحة فصيحة لما هو مستهدف سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟!

ثم إن الانشغال بتحديد «الرؤية»، التى لابد أن تعتمد على «منهج» مستمد من «فلسفة» يمكن أن يكون متاحاً وسهلاً إذا كان المجتمع نفسه قد حسم المعركة المؤدية لاستقرار ملامحه الاجتماعية والطبقية، بما يؤدى إلى وجود فئات أو طبقات غالبة تفرض الرؤية التى تخدم مصالحها، ويمكن أن تتعطف على غيرها بألا تحرمه من بعض المكاسب، أما إذا كان المجتمع مازال فى حالة سيولة وحالة تحول طويل نسبيا، ولم تحسم معركته الاجتماعية والطبقية بعد فإن مخاطره جسيمة وقاتلة يقع فيها الممسك بدفة المركب، لأن إعلان انحيازاته فى مرحلة اللاحسم الاجتماعى والطبقى ينزل بالأمة كلها فى مستنقع الاصطراع اللانهائى وغير القابل للحسم فى أمد منظور!

إن بناء مصانع ومد طرق وشق قنوات، وإقامة سدود ومواجهة إرهاب، وتأمين حدود، أمور كفيلة بأن تقود وبسرعة إلى حفز المجتمع كى يتبلور اجتماعيا وطبقيا، وعندها يكون لكل حادث حديث!

إن نصف الكأس ممتلئ بالفعل، وفى زمن وجيز جداً وفى ظروف شلل رباعى فتك بوظائف جسم الوطن، فصلوا على النبي، ومجدوا سيدكم، وابلعوا ريقكم، واتركوا الذين يعملون.. ليعملوا، وليتفرغ ورثة الباشاوات، وخلفاء منظرى الماركسية والناصرية، وجهابذة الاستراتيجية لمعارك النصوص، ومداعك التحالفات والائتلافات وخناقات التمويل، لكى تتكاثر المصانع، وتتمدد الطرق وتتوسع القنوات وتعلو السدود ويندحر الإرهاب وتتأمن الحدود، ويتعاظم دور المحروسة فى دوائره.
                                       
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 18 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment