يصعب على من عاش وقائع الصدام المصرى- السعودى فى حقب سابقة،
وعلى من انتمى وينتمى للنسق الفكرى والسياسى الذى ساد مصر- آنذاك- وأنا واحد من هؤلاء؛ أن يفكر بطريقة مخالفة لما ألفه
وانطبع عليه من معاداة للسياسة السعودية، وصلت عند البعض إلى واحد من الثوابت
الأيديولوجية، وكثيرا ما عمد البعض إلى تأصيل تاريخى للمسألة، يربط فيه سياقات
متصلة منذ فتح العرب المسلمين لمصر سنة 641 ميلادية وإلى الآن!غير أن مصائر
الأوطان وتطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية، تفرض على كل من لديه قدرة على
الفهم أن يبحث الأمر بطريقة مختلفة، تُعلى من شأن المصلحة الوطنية وتعترف
بالمتغيرات ولا تتعسف مع الجغرافيا، وتتجاوز تفاصيل الأحداث التاريخية التى فرضتها
ظروف معينة، ليبقى من التاريخ دروسه وعبره.. وأيضا قوانين حركته.. ناهيك عن أن
السياسة لا تعرف، كما يقولون صداقات أو عداوات دائمة، وأعلم مسبقا أن البعض سيقفز
بصاحب هذه السطور مباشرة إلى العلاقات المصرية مع الدولة العبرية، وسيسأل الأسئلة
الاستنكارية المشروعة فى نظره: طيب إذا كان الأمر على هذا النحو فلماذا الموقف
المتشدد من العلاقات مع «إسرائيل» والصلح والاعتراف والتعاون وإلى آخره؟ وفى ظنى
أن القياس هنا فاسد فى كل أركانه، ولا يجوز وضع الدول الموجودة بالجغرافيا
والتاريخ والحضارة والثقافة فى المنطقة ضمن حزمة واحدة مع الدولة العبرية، وهو
حديث يطول ليس هذا مكانه.
ولقد لفت نظرى أنه ما إن تستقيم العلاقات المصرية- السعودية
خاصة، والمصرية- الخليجية عموما، إلا ويقفز البعض عند أول فرصة أو تغير لكسرها، إن
لم يكن تقويضها تماما، وهذا ما عايشناه ونعايشه منذ ثورة يناير 2011، عندما بادرت
السعودية بتقديم أكثر من أربعة مليارات دولار إلى المجلس العسكرى برئاسة المشير
طنطاوي، وزيارة وفد رفيع المستوى، ولكن البعض إياه ظل يلوك حكاية تعاطف السعودية
والخليج مع مبارك وأسرته، ثم كانت حكاية الطبيب المصرى التى تم اتخاذها ذريعة
لتصعيد حملة تقويض العلاقات، وحدث ما حدث بعد ذلك فى 30 يونيو، وكان الموقف
السعودى والإماراتى والكويتى والبحرينى المتميز، وإن تفاوتت الدرجات، وكان البيان
الدبلوماسى السعودى الذى أصدره وزير الخارجية سعود الفيصل فى فرنسا حول الموقف من
مصر وممن يحاولون كسر إرادة شعبها، وأظنه كان بيانا غير مسبوق من حيث وضوحه وشدته،
واستمر الموقف السعودى والإماراتى بغير تغير حتى رحل الملك عبد الله، وإذا بنا
الآن أمام موجة جديدة من الاصطياد، وكأن مصائر الأوطان ومصالح الشعوب نزهة صياد
بدائى على شاطئ مستنقع آسن.
ولأننا نتكلم عن الجغرافيا، ولأن الشىء بالشىء يذكر، فإننى
أذكر لقاء تم فى كنيسة القوصية عندما تشرفت بدعوة صديقى جمال أسعد لإلقاء محاضرة
هناك، وتعرفت بأبينا القمص ميخائيل- نيح الله روحه- وكان متخصصا فى جغرافيا الكتب
المقدسة.. ولذلك أجدنى بصدد إضافة «الجغرافيا الحضارية والثقافية والروحية»
للجغرافيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، لأن مصر والجزيرة العربية خاصة الحجاز
وما يعرف الآن بالمملكة العربية السعودية، بينهما مشترك جغرافى حضارى وثقافى وروحى
شديد العمق والأهمية، على الأقل منذ صارت «إيزيس» هى «العزى» هناك، ومنذ كانت بعض
الآلهة مؤنثة هنا وهناك، حيث لا ننسى أن اللات والعزى ومناة ثلاثتهن إناث.
إننى لا أريد أن أرتد إلى مراحل سحيقة ما قبل حدوث الأخدود
الإفريقى العظيم ولكن الذى لا أظن أنه يمكن تجاوزه هو أن دروس التاريخ- على الأقل
الحديث والمعاصر- تثبت أن التقاطع والتصادم بين مصر وبين السعودية، وكذلك بينهما
وبين سوريا والعراق أدى ويؤدى حتما إلى خسارة فادحة لكل الأطراف، وأن الالتقاء بأى
درجة فيه فائدة تتعاظم كلما ضاقت شقة الخلاف وزالت مسببات الصدام.. بل إننى أذهب
إلى أن مصر- خاصة بعد 1967- لم تجد غضاضة فى إنهاء الشقاق وتصفية الخلاف، والتقى
الرئيس عبد الناصر بالملك فيصل، وأزالا ما كان سائدا من تقاطعات وصدامات، وأظن أن
الموقف السعودى خاصة والعربى عامة، كان أحد العناصر الرئيسية لانتصار 1973 بغير
أدنى مفاضلة بين بذل الروح وبين الدعم السياسى وبالمال والإمكانات.
ومرة ثانية يذكر الشىء بالشىء، إذ حضرت منذ نحو ثمانى سنوات
اللقاء الذى تم فى الحزب الناصرى بمقره فى شارع طلعت حرب بالقاهرة، بين السفير
السعودى هشام ناظر الذى طلب ترتيب اللقاء، وبين قيادة الحزب التى مثلها آنذاك
الراحل الأستاذ ضياء الدين داود ومعه الأمين العام وبعض أعضاء المكتب السياسى،
وكنت منهم.. وكان عجيبا أن يجرى مثل هذا اللقاء الذى فسره الضيف بأنه حرص عند
تكليفه بأن يتواصل مع كل القوى والتيارات فى مصر، ثم استطرد متحدثا عن ذكرياته فى
الحقبة الناصرية وكيف أنه من جيل أحب مصر وعبد الناصر، وذكر أمثلة على ترجمة هذا
الحب، ثم تحدث عن دعم السعودية لمصر بمقررات مؤتمر الخرطوم وقصة كيفية اتخاذ الملك
فيصل لرفع مبلغ الدعم من خمسة ملايين إسترلينى إلى خمسين مليون إسترلينى، فيما كان
سعر النفط رخيصا جدا قياسا على ما بعد ذلك، وأذكر أننى تململت وأخذت الكلمة لأحكى
عن فصول تاريخية طويلة قدمت فيها مصر الكثير منذ قافلة «عام الرمادة» على عهد عمر
بن الخطاب، الذى أرسل يؤنب عمرو بن العاص، فقام الأخير بإرسال قافلة تحمل خيرات
المحروسة كانت مقدمتها على أبواب المدينة وآخرها عند الفرما أى بالقرب من العريش،
وذكرت حجم الخَراج الذى كان يجبى من المصريين ليضخ فى خزانة الخلافة، وقصة حوار
عثمان بن عفان مع عمرو بن العاص حول زيادة التحصيل من 12 مليون دينار إلى 14 مليون
دينار، على أثر تولى عبد الله بن أبى السرح ولاية مصر مكان عمرو الذى رد على عثمان
قائلا: «إذن أضعتم صغارها» أى أضعتم شعبها.
كنت متحمسا، إذ ظنت أن الأمر معايرة ومنٌّ وأذى، غير أن سياق
الأحداث دفعنى لكى أعيد التفكير وأعيد تقييم الرؤية على ضوء واقع مصر وظروفها،
وعلى ضوء ما حاق بالأمة العربية جراء هذا الخلاف وذلك الصدام، لأصل إلى أن تكامل
الأدوار والبحث عن نقاط الالتقاء والمصالح المشتركة، هو البديل الأصوب بالجغرافيا
والتاريخ والسياسة لما هو عكس ذلك، لأن الخسارة كانت فادحة والثمن لا يحتمل. نعم..
إن مصر الآن أحوج ما تكون إلى مساندة شاملة فى مواجهة الإرهاب والضيق الاقتصادى
والموقف السلبى لأطراف دولية كبرى وعظمى فى أمريكا وأوربا، لكن إدارة الأمر لن
تكون وفق المثل العامى إياه حول «المحتاجة...» ولا ينبغى أن تكون كذلك، وإنما
إدارة الأمر تكون بمنهج له أدوات واضحة يخدم استراتيجية شاملة لا تتغير بتغير
الجالسين على كراسى الحكم، وهذا ما تفعله الدول التى تحكمها مؤسسات وتتفاعل فيها
نخب تدرك معنى الأوطان.. وأعتقد أن ما يسرى على مصر فى مضمار الدولة المؤسسية ذات
الاستراتيجية الواضحة يسرى أيضا على المملكة العربية السعودية، كما أعتقد أن
العلاقات المصرية- السعودية والخليجية بحاجة إلى شرح وتأصيل يصل لقطاعات واسعة
تؤثر فيها الشائعة ويلعب بها الهوى ويدغدغ عواطفها زيف المتاجرين بالدين.. وأيضا
بالأيديولوجيات.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 12
فبراير 2015
No comments:
Post a Comment