كما هو متوقع.. يتم التعامل الرسمى من مؤسسات الدولة ومن
النظام مع ما يكتبه البعض، وأنا منهم، باعتباره كلام جرايد حتى وإن كانت الجرايد
هى صحيفة «الأهرام» بجلالة قدرها.. إذ كتبت الخميس قبل الفائت متسائلاً عن سر صمت
مؤسسات الحكم، وفى مقدمتها الداخلية والأوقاف وأيضًا الرئاسة، على ما يقوله ويروج
له ويفعله السلفيون، وعلى رأسهم نائب «القيم» ياسر برهامى بما يضرب المواطنة
والوحدة الوطنية وحضارة الوطن وثقافته وتماسكه الاجتماعى فى صميم الصميم، عدا عن
أنه منافٍ لما ورد فى دستور البلاد ومخالف للقوانين السارية وبما يرقى لمستوى
الجريمة، وحيث لم يكتف برهامى بالطعن فى عقيدة المواطنين المصريين المسيحيين، ولا
بتحديد مصيرهم الأخروى الذى مرده إلى الله، وإنما بوصف من يخالفون كلامه هذا
ويرفضون فعله المنافى للدستور والمخالف للقانون والمعادى لكل القيم الحضارية
والثقافية بأنهم فسقة زنادقة!
ولم يصدر حتى الآن رغم ما كُتب ورغم تداول أقوال برهامى
وأمثاله على وسائل الاتصال، وفى مقدمتها «فيس بوك»، أى رد فعل من الداخلية ولا من
الأوقاف ولا من النائب العام.. ومعلوم أن الأوقاف ليست مقحمة فى المسألة، لأنها
سمحت له بالخطابة على المنابر بحجة اجتيازه الامتحان الذى وضعته، والذى لا أدرى هل
فيه سؤال عن الموقف من قضايا المواطنة ونصوص الدستور ومواد القانون، بل وأيضًا
الموقف من الآيات القرآنية التى أوجبت على الجميع أن يتركوا أى خلاف عقيدى إلى أن
يحسمه رب العزة فى الآخرة.
ثم إن الكلام عن تجفيف منابع الإرهاب وحصار وجوده إلى أن يضمر
ويجف ويسقط يعد كلام «أونطة»، هو والكلام عن تطوير وتجديد الخطاب الدعوى المشهور
بأنه خطاب ديني، لأن أخطر المنابع الفكرية والفقهية وأيضًا المادية يأتى من أولئك
الذين اختزلوا الدين فى قميص قصير وشارب حليق ويبوسة أو جفاف روحى يعادى كل ما هو
جميل مشروع من عاطفة أو ذوق أو موهبة!
ولقد شاهدت حلقة من البرنامج الذى تقدمه الإعلامية المحترمة
منى سالمان على إحدى القنوات الفضائية، وفوجئت بالإشارة إلى حوار مفتوح شارك فيه
معها ومع آخرين نادر بكار السلفى المعروف، والذى يقدم نفسه ويقدمونه باعتباره أحد
وجوههم المقبولة الأكثر انفتاحًا، ثم قام موقع السلفيين بإعادة الحوار، وإذا بنا
أمام أمر لا يصدقه أى عاقل أو حتى مجنون.. فالموقع السلفى جاء ببكار وهو يتحدث،
وعندما جاء صوت السيدة منى سالمان إذا بهم يعرضون صورتها وقد طمسوا ملامح وجهها
بالوسيلة المعروفة التى تُستخدم لطمس وجوه المتهمين فى قضايا جنائية منظورة أمام
المحاكم.. وكأن السيدة الفاضلة مجرم متهم!.. وبالطبع معلوم لماذا طمسوا وجهها على
موقعهم، لأنهم يعتبرون وجه المرأة عورة لا يجوز كشفه، ولماذا لا، وقد صرح أحد
كبارهم واسمه الحوينى منذ فترة بأن وجه المرأة كفرجها.. هكذا بصراحة دون مواربة
لأنه لا حياء فى الدين!
وبعد ذلك.. بعد كل ما يقوله ويفعله برهامى والموقع والحوينى
وأمثالهم يبقى السلفيون فى مواقعهم الإعلامية والدعوية والسياسية وكأنهم كاسرون
فعلاً عين الدولة ومؤسسات النظام.
إن اختزال الدين فى قميص قصير ــ لأن الجلباب للمرأة والقميص
للرجل: «فإن
كان قميصه».. و»يدنين من جلابيبهن» ــ وشارب حليق ولحية شعثاء غير مهذبة هو عرض
لمرض أشد عمقًا وهو اليبوسة أو الجفاف الروحى المعادى لكل ما هو جميل مشروع من
عاطفة أو ذوق أو موهبة!
إن الجفاف الروحى يتجلى أشد ما يتجلى فى حرمان الخلق من امتلاك
زمام علاقتهم بالخالق جل وعلا، فلا مجال عند أولئك الغلاظ القساة للمناجاة بين
العبد وبين ربه بالصيغة التى يرى العبد أنها تريحه وتلبى كوامن وجدانه المحبة
للخالق والخاضعة له.. ولذلك فكل الدعاء وكل الأوراد وكل الشعر وكل النثر الذى أبدعته
وجدانات بشرية مخلصة فى توحيدها هو عندهم بدع خارجة يستحق صاحبها الجحيم والزمهرير!!
ويتجلى الجفاف فى سحق أى نزوع للحنين لآل بيت النبى وحبهم
وإعلاء شأنهم هم وكل من أخذ طريق الذوق والتواجد ــ من الوجد ــ للوصول إلى
المعرفة المتكاملة دون أن يُسقط ركنًا من أركان العقيدة أو أن يشوب إيمانه شائبة
شرك أو كفر!
وهذا الجفاف وتلك الغلظة اللذان يظهران فى طريقتهم فى رفع
الأذان، وفى آداب المناقشة والتعامل مع خلق الله، سواء كانوا مسلمين أو غير
مسلمين، حيث يظهر الصلف والتكبر وادعاء احتكار الحقيقة، هو جفاف يتصل فى رفضهم لكل
ما هو ذوق.. فالموسيقي.. والفن التشكيلي.. والنحت.. والأوبرا والتمثيل.. وعموم
الفن.. واللياقة والأناقة فى الملبس وإلى آخر ما فى قاموس الذوق من مفردات
ومضامين، هو عندهم بدع وضلالات تذهب بصاحبها إلى أعماق الجحيم والزمهرير..
ولقد تابعت اهتمامات كثيرين منهم فوجدتهم يركزون على تجارة
الأراضى والعقارات وبناء العمارات واحتراف التزويغ من الضوابط، ولا أنسى المشهد
الذى كنت أراقبه من شرفة منزلى بالدور السابع، حيث أقصى ارتفاع مخالف وأكرر مخالف،
كان عشرة أدوار، أما الارتفاع الشرعى فكان أربعة ثم صار ضعف ونصف عرض الشارع على
ما أظن، وشاهدت مجموعة من الدقون حليقة اللحى تُقيم سورًا على قطعة أرض ثم تم
استخدام حنفية مياه المطافى فى خلط الخرسانات، وظل البناء يرتفع حتى أصبح سبعة عشر
طابقًا.. وكلما جاء مندوبو الحى ركضوا إلى أن بدا أنهم «خلصوا» بلغة أولاد البلد..
وسألت واحدًا منهم عن مدى الجلال فى استخدام مياه حنفية المطافى لبناء القواعد
والأدوار السبعة عشر، وكانت إجابته مستندة للألبانى رضى الله عنه!
وإلى جانب الأراضى والعقارات هناك تجارة المواشى واللحوم
والألبان، لتجد أمامك صروحًا بشرية مدكوكة فاقدة للذوق، ابتداءً من تهذيب اللحى
وليس انتهاءً برفض كل ما هو جميل.. وبعد ذلك كله تأتى وزارة الأوقاف وتسمح للذين
يتصادمون مع الدستور، ويخالفون القانون ويجافون العاطفة، ويمقتون الجمال لتمكنهم
من المنابر بدعوى اجتياز الامتحان!
ولتستمر الداخلية فى صمتها على التحريض العلنى ضد المسيحيين
وضد كل الملتزمين بمبدأ المواطنة، وليبدو أيضًا موقف الرئاسة غامضًا لأننى لم أسمع
مرة واحدة سؤالاً رئاسيًا للأستاذ مخيون عن هذا الذى يروجه برهامى ويروجه السلفيون
ضد المسيحيين وضد الدين الصحيح.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 12 مارس
2015
No comments:
Post a Comment