تعلمنا أن التاريخ لا
يعرف "لو"، ليس لأنها كما ورد في الأثر "تفتح عمل الشيطان"
ولكن لأن التاريخ علم يتعامل مع الحقائق التي تمت أو اكتملت مرحلة منها، ليناقش
مقدماتها ومساراتها ومحصلاتها وفق مناهج بحث معينة أضحت علما له أصوله، وفي هذا
تختلف دراسة التاريخ عن علوم اجتماعية أخرى تقبل الفرضيات والسيناريوهات ومناقشتها
والترجيح بين احتمالاتها!
وتعلمنا أيضا أن هناك
فرقا بين حسابات المشاريع التجارية، ومنها القطاعي ونصف الجملة والجملة، وبين
حسابات التاريخ، لأن المكاسب في الأولى وكذلك الخسائر تحسب بمعيار تعظيم الربح
المادي، يعني كم جنيها ربح الجنيه الواحد؟!!
وفي ذلك أيضا أن السمعة
والاسم التجاري لهما أيضا ثمنهما وهلم جرا، أما المكاسب في حسابات التاريخ فهي
تنصرف إلى ما هو معنوي في الغالب، ومنه أمور لا تقدر بمال!، وفي هذا قد لا يفهم
صاحب المنهج المعتمد على حسابات البقالة بالقطاعي أو نصف الجملة أو الجملة معنى أن
تقدم الشعوب تضحيات بآلاف الشهداء، وأن تضع كل مواردها وطاقاتها في مواجهة عدوان
خارجي، ويكون الأفضل عند تلك العينة من البشر هو القاعدة التي تقول: إذا تعرضت
للاغتصاب ممن لا تستطيع مقاومته.. فاستمتع!!.. لأن مكسبك بالاستمتاع يفوق بالحتم
خسارتك بفقد حياتك إذا أصررت على المقاومة.
ولو فتحنا الباب
للحسابات القائمة على فرضية "لو"، لانسحب الأمر إلى كل ما يسكن العقل
البشري من مكنونات، ابتداء من لحظة المشهد الأول للخلق ليكون السؤال: ماذا لو لم
يرد الله أن يعرف فخلق الخلق كي يعرفوه؟!.. وماذا لو استمع الله لرأي الملائكة في
استخلاف الإنسان عندما تساءلوا استفهاميا واستنكاريا: أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء، وقد يجد البعض أنهم، أي الملائكة، كانوا على حق بعدما عم الفساد
وسفك الدماء؟!
ولك عزيزي القارئ أن
تستطرد في التساؤل: بماذا لو وأن تحسب حسابات المكسب والخسارة، مدعما رأيك
بالأرقام!!
وفي هذا السياق أذكر
مناظرة شاركت فيها قبل أكثر من عشر سنوات على إحدى القنوات الفضائية المشهورة، حول
ما تبقى من ثورة يوليو 1952 وكان الطرف الآخر هو الطبيب الدكتور محمود جامع،
وأثناء الحوار تداخل أحد المشاهدين وكان اسمه سامي النصف وهو رجل أعمال كويتي،
وبدأ تعليقه بانتقادي قائلا: هذا القومي الناصري صاحب الصوت العالي الأجوف كزعيمه
عبد الناصر الذي ارتكب أكبر جريمة في تاريخ مصر، وهي تأميم قناة السويس، وما جلبه
التأميم من خراب بالحرب والدمار وتدمير قدرات الشعب المصري وإدخال المنطقة في
مرحلة تزييف الوعي بالعروبة والقومية والتحرر وخلافه! وأضاف أن بريطانيا كانت
ستترك القناة عام 1968 بدون حرب ورددت بداية بأن الأستاذ النصف قليل الأدب، لأنه
بدأ كلامه بالسباب، وأضفت أن آخر من يمكن أن ينتقد عبد الناصر هو الكوايتة، لأنه
إذا لم يكن لعبد الناصر من مآثره سوى تأجيل غزو الكويت لأكثر من ثلاثين سنة عندما
تصدى بقوة وبصرامة لمحاولة عبد الكريم قاسم ضم الكويت بالقوة إلى العراق لكفاه
ذلك!.. واستطردت، بتساؤل حول من كان يضمن ترك بريطانيا للقناة عام 1968، لأن
الدليل الواضح على أن بريطانيا لا تحترم الاتفاقيات وخاصة ما يتصل بالممرات
المائية، هو استمرار احتلالها لجبل طارق حتى الآن رغم أن الاتفاقية الخاصة بالقناة
التي وقعتها بريطانيا هي الاتفاقية نفسها الخاصة بجبل طرق!!
وأعود إلى حكاية
"لو" في التاريخ لنجد أنها لو استقرت كقاعدة في قراءة وقائعه لحق لكل
مناهض لواقعة ما ولحقبة ما أن يعتبر أنه على حق مطلق، وعلى سبيل المثال وليس
الحصر، فإن هناك من يسأل ماذا لو لم يدخل العرب مصر ويفلحوا في غزوها وكانت مصر
بقيت ولاية بيزنطية، وأصبح جذرها التاريخي هو "الجريكورومان" والمسيحي
من بعده ألم تكن مصر ستبقى في أسوأ الأحوال مثل أي مجتمع ينتمي للجذور ذاتها في
ثقافته بالمعنى الشامل للثقافة الذي يتضمن السلوك الإنساني ونمط التفكير والآداب
والفنون وغيرها وهذا أفضل مما جلبه جذرها العربي والإسلامي؟!
ولأصبح كل الحق عند من
يتساءل ماذا لو لم يكتف عبد الناصر وثورة يوليو بتصفية مصالح طبقة كبار الملاك
والرأسماليين وقام بتصفية الطبقة ذاتها عضويا، يعني قتلهم هم ومن تناسل منهم بغير
رحمة، لأنهم كما ثبت فيما بعد مع انفتاح السداح مداح ساهموا في الإفساد والفساد
وحالوا بين مصر وبين نهضة حضارية حقيقية بل شوهوا الرأسمالية ذاتها ولم يتردد
بعضهم عن اعتبار التعامل مع العدو وجهة نظر، باعتبار أنه لا عدو من الأساس لا في
اغتصاب فلسطين ولا في التمييز العنصري ولا في كل ما يتصل بالصهيونية من جوانب؟!
.. ربما يكون للحديث صلة في الفرق بين البقالة وبين التاريخ.
.. ربما يكون للحديث صلة في الفرق بين البقالة وبين التاريخ.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يوليو 2017.
No comments:
Post a Comment