Wednesday, 21 February 2018

مليار وثمانمائة مليون كلمة!





خمسة آلاف عدد صدرت من "المصري اليوم"، يعني حوالي تسعمائة ألف صفحة، إذا قلنا إن عدد صفحات العدد 18 صفحة، يعني مليار وثمانمائة مليون كلمة، لو كان متوسط عدد الكلمات في الصفحة ألفي كلمة فقط! يعني مكلمة هائلة بحساب الأعداد والصفحات والكلمات، مضاف إليها الصور الصحفية والرسوم الكاريكاتيرية والأشكال والأرقام التوضيحية.. ولو كنت أعرف عدد محرري المصري وعدد موظفيها وعمالها وموزعيها لحاولت أن أرصد أيضا عدد ساعات العمل التي أنتجت هذه المكلمة الهائلة، لندرك أنه حتى لو استعملنا الحسابات المجردة وبالقطاعي فإن جهدًا إنسانيا جبارًا بُذل، ناهيك عن أننا لم نحسب ما أنفق من مال وما استهلك من أدوات إنتاج كالورق والأحبار والأجهزة المختلفة، وناهيك أيضًا عن غياب القدرة على حساب الجهد العصبي والذهني الذي بُذل في العملية كلها ومن مختلف الأطراف، وهو جهد لا يمكن ترجمته إلى أرقام، لأن الكاتب مثلًا- وهو أحد عناصر العملية- قد يكتب مقالا من سبعمائة كلمة في ساعة، ولكن التفكير واعتصار الذهن لاستدعاء الكلمات المناسبة من مخزون الكاتب المعرفي والثقافي الذي تم تكوينه تراكميًا عبر سنين طويلة، أمور لا يمكن تحويلها إلى رقم!

هذا عن الشكل، وهو مهم، أما المضمون ففي ظني أن "المصري اليوم" جاءت إضافة مهمة للحياة العامة في مصر، وإن تفاوت ثقل هذه الأهمية في جوانب حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث يستحيل أن يصدق الزعم بحياد مطبوعة صحفية، وإن جاز الزعم بأنها تحاول أن تبدو متوازنة بحيث لا يبدو ميلها لمصالح بعينها واتجاه بذاته وقوعًا فجًا يضاعف نفور من ليسوا محسوبين على تلك المصالح وذلك الاتجاه.

ثم إن "المصري اليوم"، ورغم غياب تصنيف سياسي اجتماعي دقيق لملامح المجتمع المصري، قد أحسبها على أنها تعبير عن يمين الوسط، تظهر فيها أحيانا محاولة وجود "لطشة" معبرة عن يسار الوسط، وقد تنجح في ذلك أحيانًا لتبدو وبحق منبرًا تعدديًا، وقد تخفق أحيانًا أخرى، ليس عن عمد ولكن لأن تركيبتها- أو قل جيناتها، التي ولدت بها، ومع ما هو معلوم عن أصل التمويل وميول المصممين الذين صمموها واتجاه مؤسسها- تسمح بالتعدد الواضح داخل يمين الوسط، لتجد يمينًا سياسيًا واقتصاديًا قحًا متطاولًا وبضراوة على الاتجاهات الأخرى، وتجد وسطًا متوازنًا فيه تلمُّس لما يمكن أن نسميه الجامعة الوطنية متعددة الأصول والفروع! وهنا قد نتمنى أن تنجح "المصري اليوم" في إحداث طفرة جينية تجعلها نموذجًا واضحًا لتلك الجامعة الوطنية!

وقبل أن أستطرد باتجاه ما أعتقد أنه كلام مناسب حول مستقبل الصحافة عمومًا، بمناسبة احتفائنا بالخمسة آلاف عدد "مصري"، فإن ثمة أمنيات فرعية جزئية هامشية قد تبدو ساذجة، أراها واردة في مقام ما نتكلم عنه.. فمثلا أتمنى قليلًا من التواضع لدى من شاءت أقدارهم أن يكونوا رؤساء تحرير لصحف مصرية، لأن كثيرين يعتبرون أن مجرد الوجود في المنصب يستلزم صورة لطلعته البهية تعلو ترويسة الجريدة وتعلو مانشيتاتها وتعلو صورة الخبر الرئيسي، حتى وإن كان لرئيس الجمهورية! بل إن بعض رؤساء التحرير في صحف قومية اخترعوا بنطًا خاصًا لأسمائهم التي قد تتكرر في الصفحة الواحدة عدة مرات وفي العدد نفسه مرات كثيرة، ناهيك عن فرد المساحات والتخطيط بخطوط سوداء أو حمراء تحت بعض عبارات مقالاتهم وهلم جرا.. ومثلا أيضا وجود شللية ضمنية- وإن كانت غير معلنة في معظم الصحف القومية والخاصة- ليظهر أثرها في شكليات بعينها، كوضع صور وأسماء الكتاب في إشارات الصفحة الأولى، أو فرد مساحات لكتاب بعينهم قد تتجاوز المساحة المتعارف عليها والتي يتم إلزام البقية بها، عدا عن استكتاب من بعثوا من مرقدهم السياسي دونما أي مسوغ إلا الشفقة أو الغرض الذي في نفس يعقوب.. وحيث يعقوب هنا هو صاحب القرار! وعندئذ يتمنى المرء أن يأتي وقت تخلو فيه "المصري" من تلك الملاحظات الساذجة!

والآن لنذهب إلى ما أظنه من صميم الموضوع، ألا وهو أن الصحافة بوجه عام تخضع لقانون الأواني المستطرقة السائد في المجتمع، إذ تكون الصحافة مع السياسة مع الثقافة مع الحراك الاجتماعي في مستوى واحد، انحدارًا أو صعودًا.

وأعتقد أن الصحافة هي أكثر الأواني حساسية واستجابة لبقية الأوضاع، لأن السؤال هو: هل للكلمة دور حاسم أو كبير أو مؤثر أو يتراوح تأثيره في مجتمع تشيع فيه الأمية بمختلف أنواعها ودرجاتها، بل إنها أمية تشيع في الوسط الصحفي نفسه، حيث لا يخلو وسطنا الصحفي من أمية هجائية وفي النحو والبلاغة، وأميات سياسية وثقافية ودينية بل وأخلاقية، وقد تيقنت من ذلك عبر أربعين عامًا أو يزيد قضيتها في الصحافة، وشاء قدري أن أشرف على صفحات الرأي ومركز الدراسات وعمل المراسلين وصفحة الدين يوم الجمعة في صحيفة كبيرة، وأن أستمر في المهمة حتى الآن، وإن بصورة مختلفة!

وعندئذ أيضًا نتمنى أن تبدأ صحافتنا بعلاج نفسها من وباء الأمية المركبة متعددة الوجوه، لتنطلق في المساهمة في علاج مجتمعها من تلك الأمية، وليصبح عندنا وبحق حالة نهوض شامل تكون الصحافة هي رأس الرمح حامل الشعلة مشعة الحرارة والضوء!
                                    
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 فبراير 2018.

No comments:

Post a Comment