Thursday, 31 January 2019

المؤتمر الصحفي الرئاسي.. وخواطر تاريخية





ليس من باب الفلكلور المصري الذي يحتفظ "للعنتريات والفتونة" بمساحة عريضة في حكاياته وأزجاله وأمثاله، ولا أخفي أنني- ضمن كثيرين- ما زلنا نحب ونحكي عن نماذج تناقلتها الأجيال، أو أخرى عاصرناها، وإنما من باب القراءة المباشرة لبعض وقائع المؤتمر الصحفي للرئيسين السيسي وماكرون، ومن باب ما يطرأ على الذهن من خواطر، قد تبدو عند البعض سخيفة أو خارج السياق!

وبدايةً، لقد كان ممكنًا ومقبولًا أن يمرر الرئيس السيسي العبارات، التي تحدث فيها ضيفه عن حقوق الإنسان.. يعني بالبلدي "يعديها"، أو "يمرقها" بالتعبير اللبناني، ومبرر تمريرها هو سيل بنود التعاون وآفاقه بين البلدين، وفي مجالات شديدة الحيوية والأهمية، خاصة أننا ما زلنا في عنق الزجاجة اقتصاديًا وأمنيًا، لكن الرئيس السيسي- وبثقة واضحة وقوية نسميها في حوارينا "معلمة"- لم يقبل أمرين، الأول هو الصمت الانتهازي، والثاني هو ما بدا وأنه مساس بالسيادة المصرية، أو أنه قصور في فهم وفي معايير الطرف الآخر، ويتيعن كشف القصور حتى لا تنبني عليه أحكام وسياسات خاطئة.

لقد كان واردًا- كما أسلفت- أن "يعديها" الرئيس في المؤتمر العلني، ويتكلم فيها في الجلسات المغلقة، خشية أن تؤدي مناقشتها والرد عليها علنيًا إلى انزعاج الفرنسيين، وتكون مادة متاحة للصائدين في أي مياه عكرة لتعكير مسار الزيارة والعلاقات المصرية– الفرنسية، ولكن الرئيس لم يفعل ذلك، وجاءت الأسئلة من الصحفيين المصريين، لتحمل ردًا على الضيف الفرنسي، واتجه السيسي إلى تأكيد وشرح السياق نفسه، الذي طالما أوضحه، وهو ضرورة التعامل مع أي قضية سياسية وحقوقية وفق الظروف التي تحيط بالحالة، موضع الحديث والضوابط، التي لا يمكن لمنصف عاقل أن يتجاهلها، وأخذ يشرح المفهوم الأشمل والأكثر صحة لمضامين حقوق الإنسان التي أضحت تتجاوز حريات التفكير والاعتقاد والتظاهر والتنظيم، وبقية الكلاسيكيات المعلومة إلى حقوق العمل والأمن والمسكن، وتوفير الاحتياجات الضرورية، وأيضًا الحق في ترتيب الأولويات بين مطالب ملحة وضرورية للأغلبية وبين مطالب قد نصفها بأنها ملحة لدى أصحابها مرتبط بتوخي الأساسيات وما فوقها لهم!

كان الرئيس حاسمًا بلباقة ولياقة في رصد الإنجازات الضخمة، التي أنجزت في مجال حقوق المسحوقين اقتصاديًا واجتماعيًا، وفي مجال مواجهة الإرهاب الدموي القاتل، ثم تقديم صورة واقعية عن التحديات المستقبلية المقترنة بمعدلات الزيادة السكانية، وما تتطلبه في التعليم والصحة والبنية الأساسية والعمل إلى آخره، وإذا كان من ملاحظة لفتت انتباهي، وتمنيت لو أن أحدًا أشار إليها هي، أنه كان ضروريًا لفت انتباه الجانب الفرنسي إلى أن في مصر قضاءً مستقلًا محكومًا بتشريعات واضحة مستقرة، استُقى كثير منها من المنظومة التشريعية الفرنسية، وأن هذا القضاء هو الجهة الوحيدة المنوط بها النظر في أمر أي متهمين محتجزين في قضايا تتعلق بالنشاط الإلكتروني وخلافه.. وأننا في مصر مثلما هم في فرنسا، وحسب ما ذكره الرئيس الفرنسي نحيل للقضاء من ترى سلطات التحقيق إحالته، ولا يجوز لأحد أن يتدخل في هذا الأمر.

وأنتقل إلى ما جال في ذهني من خواطر أثناء متابعة زيارة ماكرون ومشاهدة المؤتمر الصحفي، خاصة حديث الرئيس الفرنسي عن حقوق الإنسان، وأن لديه بعض الأسماء التي سيبلغها للرئيس السيسي.. الخاطر الأول، هو أنني أعلم مثل كثيرين غيري وجود ما يمكن أن نسميه تجاوزًا "لوبي" فرانكفوني مصري، يضم عددًا ممن حصلوا على تعليمهم فوق الجامعي من الجامعات الفرنسية، وعددًا من خريجي المدارس، التي كانت في الأصل بعثات تبشيرية فرنسية، وعددًا من العاملين في فروع مؤسسات فرنسية، كالصحف ووكالات الأنباء، وعددًا ممن لهم مصالح مع فرنسا، وعادة ما يكون بعض هؤلاء هم المدعوين للقاء الزائر الفرنسي الكبير، ويقدمون إليه باعتبارهم "المجتمع المدني"! ومؤكد أن بعضهم لا تشغله حكاية الوطنية المصرية، ولا تقلقه مسألة أن يُقال عنهم أصحاب الامتيازات المتمتعين بالحماية الفرنسية، مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر، وبعض من القرن العشرين.. يعني الواحد أو الواحدة منهم يرفعان صوتيهما أمام السلطات المصرية "إحنا حماية فرنسية أو معانا باسبور فرنساوي"! تُرى هل هذا يحدث.. وتُرى هل هذا مقبول.. وتُرى هل هم وحدهم فعلًا المجتمع المدني؟!

الخاطر الثاني، ماذا لو سئل الرئيس الفرنسي: هل تسمح فرنسا ومن باب حقوق الشعوب، التي هي من صميم حقوق الإنسان، بأن يرفع مصريون دعاوى قضائية أمام القضاء الفرنسي، لتعويض مصر عن خسائرها من حملة بونابرت الشهيرة بالحملة الفرنسية.. وعن فواجعها بمئات القتلى "الشهداء"، الذين أخذوا عنوة لخدمة ديليسبس في حفر القناة، التي عادت فوائدها على مالكيها الأجانب ودولهم.. وعن ضحايا عدوان 1956 الذي شاركت فيه فرنسا بقواتها مع بريطانيا والدولة الصهيونية؟!

وهل يمكن للإدارة الفرنسية الحالية، التي تبدي حرصها وغيرتها على حقوق الإنسان "عدة مدونين" في مصر، أن تبادر هي بنفسها وتعلن عن تعويضات لكل الشعوب التي احتلت فرنسا أوطانها، أو هاجمتها، أو استنفدت مواردها وموادها الخام؟!

مجرد خواطر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 31 يناير 2019.

No comments:

Post a Comment