Friday 1 November 2019

إسقاط تاريخي!





تتدافع الأحداث التاريخية في ذهن المرء، وهو يحاول أن يتقصى جذور الواقع الراهن الذي يعايشه، لتبدو أمامه وكأنها فيلم تسجيلي وثقته الكاميرا ساعة حدوث وقائعه!

أذكر رحلة لليمن عام 1986 وكانت الدماء التي أريقت في الاقتتال بين الفصائل السياسية في الجنوب لاتزال ساخنة، وكلفت بمهمة صحفية، وفيها التقيت الرئيس علي ناصر محمد، الذي كان قد استطاع الوصول لصنعاء ومعه بعض معاونيه، أذكر منهم محمد علي أحمد، وشخص آخر كان لقبه عكوش، وأجريت عدة حوارات نُشرت آنذاك في صحيفة "الخليج"، الإماراتية، التي كنت أعمل بها، والمهم أن من بين ما سمعته وسجلته ونشرته- آنذاك- سردًا لأحداث تاريخية تتصل بعلاقة الماركسيين الشيوعيين في اليمن الجنوبي بمصر والرئيس عبد الناصر، ولم يخل السرد من شجاعة في النقد الذاتي الجاد، كما لم يخل من طرافة تستحق أن تروى.

قالوا إنهم بعد سيطرتهم على الحكم في الجنوب، واتخاذهم الماركسية اللينينية منهجًا ونظرية، كانوا يهاجمون جمال عبد الناصر، ويصفونه بالبرجوازي الصغير، وحسب التحليل الماركسي فإن البرجوازية الصغيرة تعد إحدى العقبات الكبرى في طريق انتصار الثورة الاشتراكية، والبرجوازي الصغير هو من يضع قدمًا في اتجاه التقدم، والأخرى مغروسة في وحل التخلف، والأغلب أنه ينحاز للتخلف في النهاية وللقوى المضادة للثورة، وضحك الرئيس علي ناصر عندما قال إنه تصادف أنهم كانوا في وفد يمني رفيع المستوى من الرفاق، وزار الوفد القاهرة في طريق عودته إلى عدن، والتقوا الرئيس عبد الناصر، الذي رحب بهم، وقال لهم وهو يضحك: "أنتم تصفونني بالبرجوازي الصغير المضاد للثورة، وأنني معادٍ للاشتراكية العلمية، فتعالوا نتحاسب لأنني في مصر أممت قناة السويس، ونبني السد العالي، وقبلها قطعنا شوطًا كبيرًا في تعديل الأوضاع الاجتماعية للفلاحين بالإصلاح الزراعي.. فماذا فعلتم أنتم الثوريون في عدن؟".. واستطرد: "أظن أنكم لم تفعلوا سوى تأميم سينما عدن الصيفي!".. وبعدها فوجئت بالأخ عكوش يقول إنه كان محافظًا لمحافظة "المهرة"، وهي منطقة ساحلية جرداء، أرضها سبخات مالحة لا تصلح مطلقًا لأية زراعة، ولذلك يعيش أهلها على صيد السمك وتمليحه.. ثم فوجئت بالرفاق في القيادة يخصصون ما يزيد على ثلاثين مليون دولار لإقامة مزارع نموذجية في المهرة.. ولما قدمت احتجاجي واعتراضي، مستندًا إلى شرح وافٍ للطبيعة الجغرافية للمحافظة، ردوا بأنهم يريدون "حرق المراحل"، وأخذوا يشرحون كيف أن علم الثورة، وأن الثوار الحقيقيين والمناضلين الأفذاذ، لا يستسلمون للواقع، وإذا استلزم الأمر فليكن "حرق المراحل"، أي القفز الطويل فوق المعوقات مكانًا وزمانًا للوصول إلى مرحلة يمكن فيها تحقيق الهدف!.. وقال عكوش، إنه وصف حكاية "حرق المراحل"، بأنها "الجمباز الثوري"، ثم صمت لحظات وكأنه يحاول استرجاع أمر ما، وقال "لقد كنا قبل حكاية الالتزام العقائدي نحارب الاحتلال البريطاني ونقتل جنوده بعبد الناصر!".. ولما سألته كيف؟ قال: كنا نثبت الألغام والقنابل في جدران بعض الأسوار في عدن والمدن الأخرى، ونغطيها بصور جمال عبد الناصر، فيتدافع الجنود البريطانيون لنزع الصور وتمزيقها وحرقها لتنفجر العبوات فيهم، إلى أن ابتلانا الله ببعض المنظرين الذين لقنونا النظرية، وفيها أن عبد الناصر برجوازي صغير، وأذكر– ومازال الكلام لعكوش– أنه يوم وصلنا خبر وفاة ناصر، وقف البعض يطلق الرصاص في الهواء صائحًا مبتهجًا: "مات البرجوازي الصغير"، وذكر عكوش اسم أحد الكتاب والمفكرين اللبنانيين هو فواز طرابلسي!

تذكرت ذلك الحوار فيما أتابع وباهتمام نشاط بعض الممارسين السياسيين وخطابهم السياسي والإعلامي، الذين يحاكمون النظام في مصر وفق ما يعتقدون أنه المسطرة المدنية الديمقراطية، ويقدمون أنفسهم للمجتمع بأنهم قيادات تسعى لإنقاذ الوطن من الاستبداد والديكتاتورية وقمع الحريات!

وقبل أن استطرد، أود أن أنوه لمعضلة من نوع خاص، هي معضلة أن يجد الكاتب أو صحفي الرأي نفسه بين مطرقة واقع لابد من مناقشته وتحليله ونقده – وهناك فرق بين النقد والانتقاد– وبين سندان صداقات تاريخية ممتدة لعقود، وزمالة سياسية وانتماء فكري مشترك بدرجة أو أخرى، وبالتالي يبقى الصراع الذاتي قائمًا بين الانتصار للصداقة والزمالة، ومن ثم غض الطرف عما يراه مثالب ومغالطات تستحق الرصد والمناقشة والتحليل والنقد، وبين الانتصار لما يرى أنه الواجب المهني والفكري والأخلاقي، الذي لا يجوز التخلي عنه.. ولذلك فإن هناك قاعدة قديمة تقول إنه على الكاتب أو المفكر ألا ينضم لحظة إلى تنظيم أو مجموعة ذات صبغة حركية سياسية، وأن الانتماء لاتجاه فكري أمر مختلف عن الانتماء لتنظيم حركي!

إنني أظن أن ألف باء تفعيل أية مسطرة سياسية أو فكرية، هو أن تتحقق شروطها ومعاييرها أولًا فيمن يرفعونها، وإذا كان من بين هذه الشروط الشفافية والمصارحة والوضوح والتجانس السياسي والفكري والثقافي، وأيضًا الاجتماعي، بين فريق العمل الذي يقود الحركة باتجاه تحقيق الهدف، الذي هو في حالتنا المصرية "الدولة المدنية الديمقراطية"، فإنني بالتالي أدعو من يهمه الأمر لممارسة تلك الشروط علانية، وأمام من يفترض أنهم المحكمون الشرعيون في فضاء العمل السياسي المصري.. وأعني بهم شعب مصر العظيم.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 1 نوفمبر 2019.

No comments:

Post a Comment