Thursday, 27 March 2014

تلف الانضباط والضبط الاجتماعى

 
لوحة باب النصر في القاهرة لفرانك ديلون

جاءتنى تعليقات على ما كتبته الأسبوع قبل الفائت ـ أكتب كل 15 يومًا ـ تشير إلى استحسان الالتفات للمسلك الشعبى السلبى المساهم بدرجة خطيرة فى هدر الموارد، وتدمير الإمكانات، ومحاولة رصد مظاهره ودرجاته وانعكاساته، لأنه لا يمكن صنع التقدم بالاقتصار على المناداة بالإصلاح والتغيير فى الجوانب الإدارية الرسمية، ولا أعرف هل ستتحرك الإدارة المحلية فى المحافظات، خاصة القاهرة والجيزة والإسكندرية، ومعها وزارات الأوقاف والكهرباء والداخلية لما رصدته من هدر للمياه فى الشوارع على يد البوابين، وفى المساجد وفى الحقول وهدر الكهرباء فى المساجد وفى رمضان، أم أنهم سيعتبرونه «كلام جرايد» لا أحد يتوقف عنده، هذا بفرض أنه قرأه من الأساس.

ومن المؤكد أن علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والتربية قد اهتموا بالسلبيات الشائعة فى سلوك الجماعات البشرية، ولكنى لا أعرف على وجه الدقة مدى اهتمام الأساتذة والخبراء المعنيين بتلك العلوم فى مصر بهذه الظواهر، خاصة تلك التى تتصل بغياب الوعى بخطورة هدر الموارد والطاقة وتهديد سلامة الطرق وأساسات البنايات، وكذلك المارة من المشاة.. لأن حارسا واحدا لعقار ـ بواب ـ متوسط عدد شققه 20 إلى 30 شقة، وفى كل شقة سيارة على الأقل إن لم يكن أكثر، يمكن أن يترك خرطوم المياه مفتوحًا على آخره لعدة ساعات، وبالتالى يتأثر الإسفلت ويبدأ فى التآكل وتطفح المجارى وتتشكل برك صغيرة تتوالد فيها الحشرات، وهلم جرا.. ناهيك عن الأحمال على شبكة الكهرباء جراء ترك مئات أجهزة التكييف ذات القدرات العالية مفتوحة طوال ليل رمضان وعند أوقات الصلاة، التى قد يطول بعضها بحساب المدى الزمنى بين الأذان وبين الإقامة والصلاة نفسها وما بعدها من درس أو وقت يقضيه الإمام مع بعض المصلين، هذا إذا لم يعمد خادم المسجد إلى استمرار فتح الأجهزة حتى يرتاح هو فى نسيمها العليل!

ولأن أصابع الزمار تلعب حتى وهو يموت فإن التاريخ يشغلنى باستمرار فى كل ما أكتب أو أقول، بحكم التخصص وبحكم العشق أيضًا، ولذلك فإننى أتصور أن علم التاريخ يتمم جهود علمى الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى اللذين قد يهتمان بالعوامل المحركة والدافعة للجماعات كى تسلك سلوكًا بعينه، بما فى ذلك العنف، ويأتى التاريخ لا ليبحث فى المراحل التاريخية التى مر بها السلوك الاجتماعى وفقط، وإنما ليناقش هو ذاته باعتباره عاملا رئيسيا من عوامل التأثير فى السلوك الاجتماعي.

إننى أذهب إلى أن تمزُّق السياق أو المسار التاريخى يعد أهم عامل كامن من وراء ما نلحظه من سلبيات فادحة تحكم السلوك الاجتماعى المصري. ولمزيد من التوضيح أقول إن مصر لم تشهد منذ تجربة محمد على باشا الكبير استكمالا لأى من مشاريعها النهضوية، فقد ضرب مشروع محمد على بمعاهدة لندن 1840، وضرب مشروع إسماعيل ـ أيًا كان الاختلاف على سياساته ـ بالديون والتدخل الخارجي، وضرب مشروع جمال عبد الناصر بهزيمة 1967 التى وقف وراء حدوثها أكثر من سبب، ولعب التخطيط الخارجى الإقليمى والدولى المضاد دورًا حاسمًا فى وقوعها. وقد أدى هذا التمزق إلى غياب تراكم الخبرات الاجتماعية وغياب تعميق القيم المرتبطة بكل نمط من أنماط تلك المشاريع.

وللتوضيح أكثر فإن للرأسمالية والليبرالية قيمًا اجتماعية ارتبطت بها وتراكمت وأدى تراكمها واستقرارها فى المجتمعات الغربية ـ مثلا ـ إلى وجود منظومة متكاملة لا تسمح للفرد أو للجماعة الصغيرة بأن يخرقا ما استقر من نظم وقيم، وعلى رأسها احترام حرية الآخرين والحفاظ على الحقوق العامة فى الشارع والحديقة والبناية وهلم جرا. كما أن استمرار واستقرار نظام اشتراكى ديمقراطي، كما فى بعض بلدان الشمال الأوروبي، واشتراكى ماركسى كما فى الصين وكوبا، أدى إلى وجود منظومة قيم اجتماعية يلتزم بها الجميع ويواجه من يخرقها إما عقوبات قانونية فادحة أو معاقبة اجتماعية صارمة، وتصاعدت قيمة العمل وقيمة التشارك وقيمة احترام المال العام وهلم جرا.

لقد حرمنا فى مصر من استمرار مشاريعنا الوطنية، وبالتالى لم يعد تطورنا خطًا بيانيا فيه قمم صاعدة وقيعان هابطة، ولكنه متصل أو لم يعد دوائر متصلة، كل دائرة تؤدى إلى ما بعدها، وإنما أصبح خطوطًا بيانية قزمية متجاورة لا اتصال بينها. ومن هنا أعتقد أن التلف الذى أصاب معايير الانضباط والضبط الاجتماعى لدى المصريين يعود إلى غياب ذلك التراكم والاتصال التاريخي. وربما يكون للحديث صلة.
                                      
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 27 مارس 2014

No comments:

Post a Comment