تتحول شوارع مدينة نصر- حيث أقيم- إلى قنوات مائية كل صباح
بسبب آلاف البوابين الذين يمدون خراطيم المياه من الحنفيات المقامة على أحواض
صغيرة بالقرب من مدخل كل بناية، أو الموجودة بالقرب من بئر السلم، لتبدأ حمامات غسيل السيارات
التي هي مصدر رزق البوابين، وتتجمع المياه لتنحدر في الشوارع الرئيسية كمكرم عبيد
وعباس العقاد والطيران وحسن مأمون وأحمد فخري وغيرها، ويمكن أن يستمر تدفق المياه
إذا تصادف طفح المجاري جراء عشرات محلات الخضر والفاكهة والمطاعم التي تلقي
بفضلاتها في توصيلات المجاري، وتعوم الضاحية شأنها شأن عشرات إن لم يكن مئات
الأحياء المنتشرة في المدن الكبرى والمتوسطة! في أنهر المياه العذبة المهدرة، ثم
تكتمل الحالة بؤسا إذا وضعنا في حساباتنا عشرات المئات من المساجد الجامعة
والمساجد والزوايا المنتشرة بالحق وبالباطل في كل أرجاء المحروسة، وأقصد بالباطل
مساجد الضرار التي أنشئت أسفل البنايات لكف يد القانون عن الارتفاعات وعن
التوصيلات غير القانونية للمياه والكهرباء، ناهيك عن أن كثيرا منها أقيم لغسل
الذمم المالية لأصحابه الراشين والمرتشين والمتاجرين بدم هذا الشعب في المضاربات
على الأراضي والعقارات والمتواطئين مباشرة في إفساد معظم مؤسسات الإدارة المصرية
المعنية بتطبيق القانون وإقرار النظام في نسب البناء على الأراضي والارتفاعات
وتوصيل المرافق ومتابعة تنفيذ أحكام الإزالة والمصادرة وخلافه!
لقد تعودنا على مشهد الميضأة «الميضة» المزودة بأماكن لقضاء
الحاجة وللوضوء وصوت تدفق المياه من الحنفيات المفتوحة على آخرها فيما المتوضئ
يصدر أصوات المضمضة والتنخم ويغرق أطرافه بالمياه وينتهي لينطلق تاركا الحنفية
مفتوحة على آخرها، وهي عادة تكون تالفة الجلدة فلا يمكن إغلاقها، ويدخل المسجد
الذي عادة ما يكون مفروشا بالموكيت حسب الموضة النفطية والمياه تتساقط من أطرافه
ليتجاوز صفوف الجالسين ويقترب- كلما أمكنه- من الصف الأول ليأخذ ثوابا مضاعفا!..
وفي كل ذلك لا يلتفت، لا هو ولا خادم المسجد ولا مقيم الشعائر ولا الإمام، إلى هدر
المياه، ولا يتذكرون لحظة كل الأحاديث النبوية الشريفة التي أمرت بالاقتصاد في
المياه حتى لو كان الوضوء من نهر جار!
وإذا انتقلنا من إخواننا البوابين وخراطيم المياه، ومن سادتنا
رواد المساجد إلى أهلنا في الريف- فسنجد أن حكاية الري بالراحة مازالت هي الحكاية
الأبدية الأزلية التي تحتوي كل مفردات علاقة المصريين بالزراعة والأرض الزراعية، بل
أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حيث أعتقد أن الري بالراحة كان أحد المحددات التي حكمت
مسلكيات الشخصية المصرية، واتصلت اتصالا مباشرا بالأمراض المتوطنة التي كانت
ومازالت تقصف أعمارنا مبكرا، سواء كانت بلهارسيا أو انكلستوما وإسكارس وأميبا، أو
كانت فشلا كلويا وكبديا وسرطانات من كل لون ونوع!
لقد عشت، وأحيانا مارست بنفسي مع أقربائي، تشغيل السواقي
والطنابير في الري، وأذكر وأنا أرمح ـ أركض ـ مع أولاد عمومتي لنغلق المياه عن أحد
الأحواض ونفتحها لحوض آخر وكيف كان الحذر الشديد من إغراق النباتات، أو ترك المياه
لتنشع في أرض الجيران، وبالجملة فقد كان هناك ما يمكن أن أسميه ثقافة الري بالراحة
وما يرتبط بها من فنون إقامة السواقي الصغيرة والكباسات الكبيرة وصناعة تروسها
الخشبية وعلبها المعدنية وصيانتها ومتابعة مجرى المياه حتى لا يسطو عليها آخرون في
ظلام الليل، وحراسة البهائم حتى لا تسقط في بئر الساقية وهلم جرا، أما الآن فقد
حلت ماكينات الري والآبار المدقوقة على رأس حقل بعينه لتروي عدة حقول!ومربط الفرس
في حكاية الري بالراحة هو عملية إهدار المياه والتأثير على خصوبة التربة وعلى كمية
المحاصيل ثم على سلوكيات الإنسان وربما نمط تفكيره وأيضا علاقته بالآخر!
ورغم أنني لست متخصصا في مسائل الري والمياه فإن السؤال القوي
عندئذ هو: كيف أدرنا وندير أزمة مياه النيل في جانبها المحلي المتصل بنا مباشرة
ابتداء من حنفيات المنازل والجوامع وليس انتهاء بقنوات الري في الدلتا والصعيد
مضافا إليها ما فعلناه في مخزون المياه الجوفية بالصحراء وكيف تعمدنا إهداره في
محاصيل معينة وأيضا في ملاعب الجولف والبحيرات الاصطناعية في تجمعات المترفين
ومحمياتهم السكنية والشاطئية؟!
هذه ليست دعوة لإثيوبيا كي تركز على أن المشكلة مع مصر هي
مشكلة طريقة استخدامها لمياه النهر، فأنا مع مقاومة التعنت الإثيوبي بكل الوسائل
لنكفل حياة أجيالنا المقبلة، ولكنها في الأساس دعوة للجميع كي نعيد قراءة واقعنا
الاقتصادي الاجتماعي الثقافي ورصد ما فيه من قيم ومسلكيات معوقة للنمو ومدمرة
للتنمية ومهدرة لمواردنا وطاقاتنا على أكثر من صعيد!
من منا لا يمر في شريان مروري كصلاح سالم وامتداده في العروبة
ثم يفاجأ أو بالأحرى لا يفاجأ وإنما يصيبه الوجع وأحيانا الزهق والرغبة في الخلاص
من الحياة في العاصمة، وهو يتعطل في نقط بعينها هي التي تقع أمام دور المناسبات
الملحقة بالمساجد الكبيرة سواء كانت المناسبة عقد قران أو تشييع جنازة أو مشاركة
في عزاء مقام، مع أنني أعلم أن مسجدا شديد البهاء والفخامة، هو مسجد الرحمن
الرحيم، أو مسجد توشيبا، لم يحصل في رخصة إنشائه على أي تصريح بوجود قاعات
للمناسبات إياها ومع ذلك وصل الحال بي وبغيري ممن حوصروا بسبب وقوف السيارات أمام
المسجد صفين وثلاثة، وإغلاق المرور إلى أن نعود ونسلك طرقا أخرى عبر منطقة عبده
باشا والعباسية لنصل إلى أعمالنا، وعليه فقد تمت إقامة أسوار حديدية عالية وإغلاق
شوارع محيطة بالمسجد ووجود دوريات شرطة وأوناش بشكل شبه دائم ومع ذلك لن تعدم أخرق
يظن أنه مهم أو ابن مهم يترك سيارته في الممنوع!، وقس على ذلك ما يحدثه مسجد
الشرطة الذي كان من الممكن أن يقام في موقع آخر أو يتم تعديل موقعه بحيث لا يترتب
على أنشطته أي تعطيل لذلك الشريان الحيوي في قلب العاصمة المشلولة.. ثم إن على
الجانب الآخر من الشارع مساجد ذات دور مناسبات وعليه أيضا العديد من الدور
الاجتماعية والأندية تحمل أسماء أسلحة القوات المسلحة، وأنا وغيري أيضا لا مانع
ولا احتجاج لدينا على هذه الأنشطة لجنودنا وضباطنا وأسرهم، فهم في القلب والعين،
ولكن وكما نقول بالعامية «ماحبكتش» يكون كل هذا الازدحام بدور المناسبات الملحقة
بالمساجد والأندية مُركزا في صلاح سالم، وأماكن أخرى في القاهرة والجيزة لا تقل
أهمية!
نحن كما أسلفت بصدد ملفات قد يراها البعض محرجة أو أن هذا ليس
وقتها، ولكننى أرى أن وقت الحرج من أي ملف قد ولّى بغير رجعة وليس محتما على كل
المجتمع أن يدفع ثمن أن أحدهم أراد أن يضمن لنفسه قصرا في الجنة يشبه المسجد الذي
تبرع ببنائه أو أحدا آخر أراد أن يغسل ذمته الخربة بأن يحول البدروم أو الدور
الأرضي لزاوية يستأجر لها راسب إعدادية أزهرية ليؤم الناس ويفتيهم في شئون دنياهم
ودينهم.
إن قضية مياه النيل هي من صميم الظواهر المركبة المعقدة التي
تحكم حياتنا اليومية ولنبدأ منها مسيرة التصدي الشامل لكل القيم والمسلكيات
المعوقة للنمو والتقدم.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 13 مارس
2014
No comments:
Post a Comment