Thursday, 24 April 2014

إصابة كبد الحقيقة.. بتليف

 
لوحة مشعل المصباح للودفيج دويتش

كان للراحل المبدع محمد مستجاب قفشات اصطلاحية ـ إذا جاز التعبير ـ منها أنه كان يصف من يدعى لنفسه معرفة الحقيقة وهو جاهل مركب بأنه رجل يصيب كبد الحقيقة دومًا.. ثم يصمت قليلاً ويضيف: «..ولكن بتليف»، وكنت دائمًا ما أضحك مع شقيقى الأصغر، الذى كان يتندر على من يخفقون فى النجاح الدراسى من زملائه، ولكنهم يدعون أنهم فعلوها بمزاجهم، «لقد نجح نجاحًا منقطع الدرجات»!

وفى ظنى أن هناك من يصيبون كبد الحقيقة فى تصوراتهم السياسية ودعاواهم الأيديولوجية.. «ولكن بتليف»، ولكن أظن أنهم سينجحون نجاحًا «منقطع الجماهير»! وآخر صيحة يدعون إليها الآن وجاءتنى على الـ«فيس بوك» هى انتخاب مرشح بذاته من أجل الدولة المدنية. وأعتقد أنه لا يوجد فى ساحة العمل العام السياسى عمومًا، وفى مجال الفكر خاصة أحد يمكن أن يُصادر فكرًا أو دعوةً لغيره، حتى وإن كان من مخالفيها. غير أن هذا لا يحول دون مناقشة الأفكار ووضع الدعاوى موضع الفحص غير الذاتي، لتبين أبعادها ومردوداتها وتأثيرها على بقية الجوانب، وفى القلب منها الوجود الوطنى ذاته.

ومن أجل إنعاش الذاكرة أود الإشارة بسرعة إلى أن مطلع السبعينيات شهد البداية الجنينية لما أصبحنا نسميه التفتيت والتفكيك، وقد صار واقعًا حيًا يقصم ظهورنا. ففى تلك الفترة جاء رئيس جمهورية قال عن نفسه: إنه «الرئيس المؤمن الأمر الذى يعنى بمفهوم المخالفة أن من قبله كان غير مؤمن».

وبعدها تطور الأمر عقب أكتوبر 1973 حيث طمرت أدوار جنود وصف وضباط جيش العبور من مختلف الفئات ومن المسيحيين والمسلمين، وأهدر دور السلاح والتقدم التقنى والتدريب والابتكار والشجاعة والتخطيط والدعم العربى والإفريقي، ومن الاتحاد السوفيتي، ليتم التركيز على أن الانتصار تم لأننا كنا قبل ذلك كفارًا اشتراكيين، والآن صرنا مؤمنين انفتاحيين!

ومع مقدم منتصف السبعينيات وجدنا على ساحة الفكر والثقافة وساحات العمل السياسى متغيرًا جديدًا جاء مع الصلح الذى تم بين السادات وبين الإخوان المسلمين، وفتح مجلة «الدعوة» ووجود مقر لهم وظهور اسم المرشد علنًا، وكان ذلك كله بموافقات شفهية من رأس الدولة دون وجود أى قرارات رسمية مكتوبة ومنشورة.. ومع ذلك المتغير انهمرت مفردات أجندة جديدة قوامها «الثنائيات المتصادمة»، تلك التى كانت من صميم ثراء التنوع الفكرى والثقافى والحضارى المصري، وربما بعضنا قد شارك بالحديث أو بالاستماع فى مناظرات وندوات حول «العلم.. والإيمان»، و«الدين.. والعلم» وغيرها وغيرها من العناوين التى شغلت معظم، إن لم يكن كل، الحيز الذهنى للمجتمع، وفى الوقت نفسه انعكس ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت «ملحمة» أو بالأصح «مدعكة» الانفتاح السداح مداح بدعوى أن أى تدخل فى حرية الاستثمار ورأس المال هو عودة لدولة الكفر والهزيمة، ومع الانفتاح كان «توظيف الأموال»، وظهرت فئة أصحاب شركات التوظيف التى جعلت «الريان.. بابا من أبواب الجنة»، وانطلقت اللحى طويلة كثيفة، وذهبت مدخرات ملايين المصريين إلى كروش وخزائن باسم دين الله وشريعة رسوله، ومات كثيرون كمدًا وأصيب غيرهم بالشلل!

كان منطق الثنائيات فى تلك الفترة هو البوابة التى دخل منها الخراب وانطلق منها المخطط الجهنمى لتفتيت مصر.. ومعها المنطقة كلها.

انتقلنا لمرحلة تالية، أشد وطأة حيث تعاظم التمزيق إلى مسيحى ومسلم.. ثم مسيحى أرثوذكسى فى مواجهة آخرين كاثوليك وبروتستانت!، بل اخترعوا كنيسة أرثوذكسية ثانية أسموها «الأثناسيوسية»، وجعلوا لها مقرًا فى المقطم وعلى رأسها واحد اسمه مكسيميوس!

وعلى الجانب الآخر صار الأمر سنة.. وشيعة.. وفى السنة جمهور وأشاعرة وسلفيون وصوفيون.. ثم فى هؤلاء أجزاء فرعية كسلفى حزبى وسلفى جهادي.. وجماعة إسلامية وإلى آخره!

ولم ينته الأمر إلى ذلك وفقط، وإنما عشنا منذ فترة حديثًا عن النوبة ولغتهم وثقافتهم ليس ضمن الكل المصرى الواحد بتنوعاته، التى تثريه وتضاعف عظمته الحضارية ولكن باتجاه التمزيق، وعلت نغمات هائلة من المصريين فى سيناء وشمالاً وجنوبًا وكيف أنهم بدو لهم ولاءات غير وطنية.. والآن تبدأ حلقة جديدة أظنها من أخطر وأكثر الحلقات وأشدها، هى حلقة تقسيم الوجود الاجتماعى والسياسى والفكرى والثقافى المصرى إلى مدني.. وإلى عسكري!.. لأن القضية لن تصبح متصلة بشكل الزى الذى يرتديه المرء، وإنما تجاوزت ذلك بالفعل إلى مكنونات فكر وثقافة ومواقف الناس، وظهر مصطلح «عبيد البيادة»، الذى لم يجد أحدًا فى الجانب الآخر ليسك مصطلحًا مماثلاً ينعت به الإخوان وأتباعهم ومن على شاكلتهم! نحن بصدد تمزيق لن يتصل بالدين، ولا بالفكر ولا بالمذهب ولا بالعرق وفقط، وإنما سيصيب قلب الوطن وكبده مباشرة!

فأنا قد أكون مدنيًا بحكم المهنة والملبس، ولكننى أصنف ضمن العسكر، لأننى مؤمن ومعتقد فى أهمية دور الجيش المصرى على مر العصور وإلى أن تؤمن مصر نفسها من الخطر.. ومؤمن ومعتقد أن أبناء مصر من العسكريين لا يقلون وطنية ولا التزامًا ولا ثقافة ولا علمًا عن غيرهم من المواطنين، ومؤمن أن الجيش المصرى ظل على مدى العقود بوتقة لانصهار التكوين المصرى لتختفى منه أى نتوءات يمكن أن تظهر فى أماكن وظروف أخرى!

هكذا ومن بوابة تأييد حمدين صباحى ليس لاتجاهه السياسى ولا لبرنامجه ولا حتى لشكله، وإنما لأنه مدنى وفقط، ندخل مرحلة أخرى من مراحل مخطط تفتيت مصر وتفكيكها، وقد أطلقت الدعوة لمن يريد أن يعرف من كندا، حيث لا بأس من الانفصال على أسس لغوية.
                                     
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 24 أبريل 2014

No comments:

Post a Comment