سأحاول الكتابة فى أمرين، أولهما يتصل بالحوار ـ ولا أقول
المعركة ـ على موقع رئيس الجمهورية، وثانيهما يتعلق بأمر يعد قديمًا نسبيًا، وهو
بعض مقدمات الحراك الثورى فى مصر.
عن الأمر الأول: أعتقد أن الأصل فى أى انتماء سياسي..
ليبراليًا أو قوميًا ناصريًا أو شيوعيًا هو الانتماء للوطن، أى أن نكون وطنيين
أولاً، ثم نحمل أى صفة تالية، وأذكر أننى ذات حوار اختلفت مع أستاذى وصديقى الغالى
المرحوم الأستاذ كامل زهيرى فى مسألة ذات طابع فكرى وسياسي، ووجدته محتدًا يؤصل
للأمر بقوله: «أولاً أنا ناصرى لأننى وطنى وليس العكس..».وعليه فإن مصالح الوطن
وآفاق مستقبله ومجمل ثوابته، هى التى تحدد للمرء أين يقف فى المشهد السياسى الراهن
والمستقبلي.
ولعلى بداية أعترف بأن مقاومة الانجراف إلى شخصنة الأمور عملية
شديدة الصعوبة، خاصة إذا كان هناك كثيرون ـ وأنا واحد منهم ـ يعرفون أحد المرشحين
حق المعرفة، ولدى معظمهم ما يدعم التشخيص السلبى لحالة ذلك المرشح، بل إننى سمعت
من بعض من يشغلون مواقع رئيسية فى حزب «الكرامة» انتقادات فادحة، وشاركت معهم فى
النقاش حول «الفرد ـ الظاهرة السينمائية».. غير أن الوطن.. ولا أحد سواه يحتم غض
الطرف عن تلك الشخصنة، ولكنه يجرم المراوغة فى الحق، والمغامرة بمصيره ترابًا
وشعبًا وسيادةً.
والحق أن مصير الوطن، ترابًا وشعبًا وسيادةً، قد تعرض لزلازل
وعواصف متربة تفوق رياح السموم والخماسين وأعاصير الأطلسي، وإذا كان تراثنا قد صور
الوطن كسفينة يتشارك فى ملكيتها ركابها، وهى تعبر عباب بحر متلاطم، وأراد أحدهم أن
يخرقها، مدعيًا أن من حقه فعل ما يريد فيما يملك، تعين على الآخرين أن يضربوا على
يديه ويمنعوه فإذا فعلوا نجوا ونجا، وإذا تركوه هلك وهلكوا..
ثم إن حكاية «العسكر» و«العسكريين»، تلك الفرية الدخيلة على
مصر، والتى تروّج أن لابسى الكاكى لا يرتقون فى الثقافة والمعرفة، وزلاقة اللسان،
«وعوجة الرقبة» إلى مستوى الأساتذة خريجى الجامعات المدنية، وخاصة إذا كان ممن
جاسوا فى الديار السياسية طلابًا وبرلمانيين، هى حكاية تذكرنى بما كتبه أستاذى
وصديقى عن بُعد قرونا طويلة، هو جلال الدين الرومي، إذ يحكى أن أحدهم وكان أستاذًا
وفقيهًا فى اللغة والأصول فقهًا ودينًا ذهب إلى شاطئ البحر ليركب سفينة يعبر بها
إلى بغيته، وعند حافة الماء سأل: أين النوتى أى المراكبى فرد الأخير أنا المراكبى
يا سيدنا!. وعندئذ سأله سيدنا: هل تجيد اللغة، وهل تفقه علوم الدين لتعرف شئون الدنيا؟..
وأجاب المراكبي: لا سيدي، فقال سيدنا: إذن فقد ضاع نصف عمرك! ودلف إلى السفينة حيث
جلس، وبعد أن أوغلت السفينة فى البحر هبت عاصفة عاتية هوجاء، وبدأ سيدنا فى الصياح
والتكبير والحوقلة، فإذا بالمراكبى يسأله: هل تعرف العوم يا سيدنا؟ فأجاب: لا،
وعندها قال المراكبى بصوت حسير: «إذن ضاع كل عمرك!»
الحق أن الوطن يحتاج ربانًا أو ريسًا يجيد فنون الإبحار فى
أجواء الخطر والقتال، فإذا ما استقر الطقس وهدأت الأنواء وصفا الجو فى سيناء
والصعيد، وفى الغرب مصدر الخماسين والسموم، واستطاع الربان «الريس» أن يؤّمن
المسار والمؤونة، صار واردًا أن يتولى الدفة أى نوتى لديه الحيل لتحريكها بأصابع
قدميه.
أما الأمر الثاني، فقد طرأ على ذهنى فيما كنت أعقب على أحد
المتحدثين فى مؤتمر عقدته مكتبة الإسكندرية حول العالم العربى ونداء الحرية
والعدالة والكرامة والوطنية، وكان المتحدث من إخوتنا الإماراتيين، وكان حديثه حول
التأثير المتبادل بين «دول الربيع العربي» ودول الخليج، وما طرأ على ذهنى هو أن
مصر شهدت ذروة تحرك ثورى شعبى فى يناير 1977، وكانت الجماهير المتدفقة من أسوان
للإسكندرية، ومن العريش إلى السلوم، تهتف هتافات تكشف عن أعماق سياسية واقتصادية
واجتماعية، وقد شاركت بنفسى مع آخرين فى تلك الأيام، واتُهمت فى القضية رقم 100
أمن دولة عليا بالتحريض على الانتفاضة.. ثم كان سكون طويل، استمر إلى مطلع العقد
الثانى من القرن الحادى والعشرين، أى حوالى ثلاثة عقود ونصف، وعندئذ يمكن السؤال
هو: لماذا كان ذلك السكون، ولماذا لم تستمر لحظة الفعل الجماهيرى الغاضب لتُسقط
النظام قبل يناير 2011؟!. أعتقد أن الإجابة تكمن فى أن تلك العقود كانت فترة تدفق
العمالة المصرية إلى دول الخليج والعراق وليبيا، وأن الطبقة الوسطى المصرية كانت
من أهم الفئات، التى ذهبت إلى ما أسميه «الترحيلة النفطية»، وظل «الكاش» ـ أى
النقد السائل ـ يتدفق إلى المحروسة بكميات هائلة، سواء كان مصدرها مدخرات عدة
ملايين مصري، الذين شملتهم تلك الترحيلة أو كان مصدرها المساعدات والمنح والقروض،
التى انهالت على مصر من هناك، وتم نهبها وتهريبها، وكان كله «كاش»، لا يعبر عن
أصول إنتاجية، وتحول معظمه إلى أسمنت وأسفلت فى المنتجعات الشاطئية، الممتدة من
العريش إلى السلوم وعلى طول البحر الأحمر والبحيرات وقناة السويس.
وإضافة لذلك عادت تلك العمالة بقيم وتقاليد وأنماط تفكير
واهتمامات ثقافية مختلفة، أهمها تقديس الحل أو الخلاص الفردي، فمدخراتى فى جيبى
وأستطيع شراء ما أريد، سكنًا وملبسًا وطعامًا ومكيفات وموكيت! وليس لى دخل
بالآخرين وليس لهم شيء عندي.. وظهرت حكومات ترعى هذه الفلسفة وتشجعها، وهى حكومات
الفاسدين، وزارة من بعد وزارة! ثم وقعت الوقائع ـ وليس الواقعة فقط ـ فقد أوصد
العراق، وبدأت دول الخليج فى التوطين، أو فى تفضيل العمالة الآسيوية على العمالة
المصرية والعربية، وضاقت الدنيا فى مصر، لأن الكاش النفطى تبدد، والعيال لم تتعلم،
ولم تتزوج، والحكومات لم تتوقف عن الاستبداد والفساد.. وكان لابد من تجديد ما بدأ
عام 1977.. مجرد اجتهاد ولابد له من تأصيل أوسع.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10
أبريل 2014
No comments:
Post a Comment