مهما يكن الإحكام فى التأسيس النظرى لمشروعات النهوض الاقتصادى
والاجتماعى والثقافى للفترة المقبلة فإنها تبقى أفكارًا عظيمة على الورق ما لم تجد
من يجعل مضامينها متاحة للتطبيق العملي. ولطالما واجهنى سؤال متكرر أظنه واجه كثيرين غيرى ممن شاءت
الظروف أن يكونوا محاضرين فى لقاءات تنعقد من أجل مناقشة الواقع المصري.
والسؤال هو: كيف السبيل لتطبيق الأفكار التى يطرحها المحاضر؟
وكثيرا ما كنت أرد مستشهدا بمعنى جاء فى الإنجيل يشير إلى أن قطعة الخميرة الصغيرة
تخمّر عدة كيلات من العجين، «متى 13ـ 23»، وهذا هو حال المجتمع، حيث يمكن أن تكون
«الخميرة» هى الذين يتعاملون مع دورهم فى تلك المشاريع معاملة رسالية لا يحول
بينهم وبين تأدية واجبهم فى التوعية والمساهمة فى التطبيق العملى حائل.. وكذلك
أذهب إلى أنه يمكن العمل على جعل مواقع بعينها فى الريف والبادية والحضر بمثابة
الخميرة التى تخمّر العجين كله!.. وهذا هو ما أقترحه على أصحاب رءوس الأموال من
المصريين الذين يبحثون عن دور لأموالهم وجهدهم دون أن تتعرض الأموال للتبديد بأن
تصرف على «العواطلية» الذين نراهم ملتصقين- كما الحشرات الماصة للدماء- فى جسد كل
مشروع وأى ميزانية.
الاقتراح ببساطة هو أن تتجه الأموال والجهود إلى مواقع بعينها،
لتحريرها من الفقر والجهل والمرض، ومن منظومة العادات والتقاليد والمسلكيات
المعوقة للنمو وللتطور، والمحفزة للمكوث فى منحدرات الركود والسلبية والطائفية وما
إلى ذلك مما نعرفه جميعا، ومن تلك المواقع المحررة تبدأ «البكتيريا النافعة» ـ كما
فى الخميرة ـ تنتقل وتؤتى نتائجها فى مواقع مجاورة حتى تتصل الخيوط بين هذه
المواقع، فإذا بالقرية أو الحى أو الناحية- التى تحررت من الفقر والجهل والمرض ومن
معوقات النمو والانطلاق- تصبح مركزا والمركز يصبح محافظة وهلم جرا، حتى نجد الوطن
وقد انعتق من ربقة التخلف.
إن هناك مواقع مهيأة لهذا الدور الريادى العميق، وسأضرب أمثلة
من الماضي، كمحافظة المنوفية التى يتداول الوجدان الشعبى أن جهدا لرجل هو
عبدالعزيز باشا فهمى وآخرين من نخبة كبار الملاك الزراعيين آنذاك تمكن من جعل
محافظة ـ «مديرية» ـ المنوفية أعلى نسبة تعليم، بل ربما خلت تقريبا من الأمية،
وأعلى نسبة عمل لمن هم فى سن العمل لدرجة كانت تروى فيها طرفة حقيقية تحكى عن تلك
المرأة العجوز التى ذهبت لعبد العزيز باشا تسأله صدقة، فسألها عن أى شيء تملكه
يحميها من ذل السؤال، فأجابت أنها لا تملك سوى حمار متهالك، وإذا بالباشا يطلب
منها إحضاره ويكلف من يذهب به إلى مكتب البريد «البوستة» ويطلب منهم تشغيل الحمار
فى نقل البريد والساعى طبعا.. وقيل عندئذ إن الباشا شغَّل الحمار!
وهنا لا بد من الإشارة إلى الخميرة التى مثلتها جمعية المساعى
المشكورة التى تأسست فى المنوفية وانطلقت فى قراها ومدنها، وتعلم فيها عشرات
الأجيال تعليما محترما.. وأذكر أن أبى عليه رحمة الله ـ عمل فيها مدرسا عند نهاية
الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، وكان الناظر الوقور الصارم والعالم فى آن هو
المغفور له الأستاذ صلاح النحاس، والد الدكتور صفوت النحاس! ثم خذ عندك أيضا
الخمائر التى تمثلت فى الجمعية الخيرية القبطية، وفى سلاسل الإرساليات كالفرير
والجزويت والأرمن الكاثوليك وما شابهها من تلك الهيئات التـى أرست نهضة تعليمية لم
يكتب لها أن تنتشر.
وفى الوقت الراهن فإن مدينة مثل «الجونة» فى محافظة البحر
الأحمر يمكن أن تكون الخميرة الصالحة التى تنتشر منها عدوى التحديث فى بقية المدن
هناك كالقصير ورأس غارب ومرسى علم والغردقة وسفاجا، لا لشيء إلا لأن الجونة تضم
جامعة وبنية أساسية شبه نموذجية، وفى هذا تفضيل قد آتى على ذكره بعد أن زرت منطقة
القصير أخيرا، ووجدت جريمة فى حق التاريخ والآثار والبشر، كما وجدت بوارق أمل فى
النهوض.. وقس على ذلك العديد من المواقع المهيأة لتكون هى تلك الخميرة، وأخص هنا
كل القرى الموجودة فى الوجهين البحرى والقبلى وكانت متخصصة فى نوع معين من
الصناعات، أو اتجهت للتخصص فى صناعات بذاتها، كإنتاج الأقمشة الحريرية والكتانية
وكذلك السجاجيد والأكلمة وأيضا الأثاث الخشبي، والأخرى المصنوعة من جريد النخل
والبامبو.. وهنا تظهر مواقع كأخميم وقفط وأسوان وقرى كتامة فى الغربية وفوة فى كفر
الشيخ وكرداسة فى الجيزة وهلم جرا. إن الأمل هو فى «شبكة عنكبوتية» ليست افتراضية كعالم
«التويتر وفيسبوك» وغيرهما، ولكن واقعية لتنتشر النقاط المفصلية ولتلتقى فيها
الخيوط وتتصل ببعضها مثلما نراها حقيقة فيما تغزله العناكب الحقيقية!
وإذا كانت تلك الفكرة قابلة للفهم وللتطبيق فإن المتوقع هو أن
نترقب إعلانا من بعض أصحاب رءوس الأموال الراغبين فى خدمة الوطن، يعلنون فيه عن
المواقع التى اختاروها لتصبح «الخميرة الصالحة» وتتحرر مما سبق وأشرت إليه، ولأن
القوة والنجاح مثلهما مثل الضعف والفشل، أى أن كليهما «عدوى» يمكن أن تنتشر فإننا
بانتظار أن «تعطس» الرأسمالية المصرية لتنشر الخير، ولنقول لها: يرحمكم الله.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14
أغسطس 2014.
No comments:
Post a Comment