Saturday, 9 August 2014

محاولة لفهم أبعاد الصراع الحالى

 
لوحة معبد الكرنك لأرنست كارل أيوجين كورنر
فى مناقشة مع صديق تطرق الحديث إلى التحديات الرئيسية التى تواجه الوطن، ومنها مساحة وأبعاد الحرب التى تخوضها مصر على عدة جبهات، وتوغل الحديث فى أبعاد تاريخية، وذهبت إلى أن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال الاحتفال بليلة القدر تعد فى نظرى رغم اقتضابها ـ مفتاحا لذلك البعد التاريخى وتأصيلا لجذور الصراع فى مصر، وطلب إلىّ الصديق أن أكتب فكانت هذه السطور التى أبدأها بما فكرت فى أن يكون الخاتمة، وهو أننى تعلمت منذ أمد طويل أن من يصاحب السلطان ويتقرب منه يمسى كمن وجد نفسه على ظهر أسد.. إن بقى فى مكانه فهو فى خطر.. وإن نزل فهو فى خطر أشد.. لذا فوجود مسافة.. أفضل!

ثم إننى أذهب إلى أن الحال بعد ثورتى يناير ويونيو لا يفسح مجالا لزراعة النفاق ونموه وازدهاره، وأن الذين احترفوا اقتناص الفرصة لحصار الحاكم وكف بصره وطمس بصيرته عن أن يرى الحق وأن يسحق الباطل، لن يجدوا هذه الفرصة لا لشيء إلا لأمرين أولهما: أن الناس لن تصمت ولن تدارى ولن تطرب لإيقاعات النفاق، وثانيهما: أن الحاكم نفسه رأى رأس الذئب الطائر!

وببساطة، أجد أن كلمة الرئيس السيسى قد فتحت المجال للاجتهاد ليس فقط لتطوير وتحديث ما يسمى بالخطاب الديني، وليس فقط لتكريس مكارم الأخلاق، وإنما مع هذا وذاك مواجهة كل السلبيات والمعوقات والأمراض المجتمعية التى كرّست للكذب وللإهمال والتسيب والجهل والفقر والفساد والسطحية والعزوف عما هو صحيح الدين، ومن ثم صحيح المسلك والمعاملة.. وقد ربطت العبارات التى سمعناها من صاحبها ليلة القدر بين الحفظ والتلقين وغياب الفهم والبحث والدراسة وبين تلك السلبيات والمعوقات والأمراض المجتمعية وما كرّست له!

وعندى وربما عند آخرين ـ فإن ذلك الصراع يضرب بجذوره إلى ما قبل تجربة محمد على باشا الكبير عندما ظهر الاتجاه إلى مناقشة وفهم وأيضا نقد المتون الفقهية وغير الفقهية، ويقال: إن الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر (1830 إلى 1835) هو الرائد فى هذا الاتجاه.. اتجاه نقد المتون وعدم الاكتفاء بحفظها وشرحها.

منذ ذلك الحين وبداية من الشيخ حسن العطار، ثم تلميذيه محمد عياد الطنطاوى ورفاعة رافع الطهطاوي، لم يتوقف الصراع بين الاتجاهين اللذين أسسا لمشروعين مازالا يصطرعان فى مصر والمنطقة، مشروع التخلف والركود بالحفظ والتلقين والتسميع والاكتفاء بما هو متوافر من نتاج السلف ومعاداة إنجازات العصر بما فى ذلك أدوات البحث العلمى وتطبيقاته، ومشروع التقدم والتجديد بإعمال العقل وبذل الجهد وإفراغ الوسع ليس فقط فيما يتصل بالدين والفقه وأصولهما، وإنما فى كل ما يتصل بالحياة من علم وبحث علمى وتطبيقات تقنية فى مختلف المجالات التى تجل عن الحصر، والتى تنتشر دراستها فى الكليات الجامعية كثيرة العدد مختلفة التخصص فى أقسامها.

ولقد استمر مشروع الركود بعد الإمام محمد عبده فى تلاميذه، محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، ومن التقط خيطهما مثل حسن البنا إلى أن وصلنا لمرحلة نعيشها الآن مع من يستحلون دماء الأنفس الإنسانية بغير أى حق، ومع من يفتون بمعاملة الزوجة أم الأولاد الكتابية معاملة المرأة المغتصبة، بل وإشعارها دوما بأنها مرذولة مكروهة، ومع من يفتون بتغطية ضروع إناث الماشية لأنها جالبة للفتنة!، وأذهب إلى أن كلا من الإخوان والسلفيين ومن شرب مشربهما هم التمثيل الواضح لذلك المشروع.

على الجانب الآخر فإن سلالة أخرى جاءت من مدرسة التجديد والتقدم، التى قادها الإمام محمد عبده بعد شيخيه رفاعة والعطار، وظهر فيها أعلام أفذاذ قد يجلون عن الحصر، وكان منهم سعد زغلول وقاسم أمين ولطفى السيد، وبقى الحال حال أعلام أفراد إلى أن توافرت ظروف تاريخية صار فيها الأمر أمر مشروع وطنى شامل، يشمل الاستقلال وحرية الإرادة الوطنية وقوتها، والتنمية الشاملة والعدل الاجتماعي، وبناء صروح الصناعة بأنواعها، والسيطرة على النهر، وانطلاق مصر لتكريس دورها فى دوائر محيطها، وهلم جرا مما هو معروف، إلا أن من أهم ملامح مشروع التجديد فى نظرى هو توسيع رقعة التعليم العام والجامعي، ثم تطوير التعليم فى الأزهر الشريف بحيث يضم إلى جانب كلياته القائمة، وهى الشريعة وأصول الدين واللغة العربية، كليات أخرى تماثل ما فى الجامعات المصرية. هنا أتوقف لرصد ظاهرة أظنها خطيرة، وأعتقد أنها من وراء التخلف والركود اللذين أشرت إلى ما ارتبط بهما من سلبيات ومعوقات وأمراض.. هى ظاهرة الانقطاع فى السياق التاريخى لوطننا بوجه عام، وفى مسألة التعليم بوجه خاص. فالأصل فى التطور والتقدم هو الاتصال بين مراحل التاريخ، إما على هيئة خط بيانى متصل فيه قمم صاعدة وقيعان هابطة ـ حسب الظروف ـ ولكنه متصل، أو على هيئة دوائر متصلة ببعضها «حلزون»، كل واحدة تتصل بما سبقها وبما يلحقها، أما الاستثناء وهو ما حدث عندنا للأسف فهو تحول الخط البيانى إلى خطوط قزمية منفصلة.. كل تجربة أو كل مرحلة أو كل حكم يبدأ من الصفر إلى درجة أو أكثر، ثم يتوقف الخط ليبدأ خط جديد من الصفر دونما اتصال، أى دونما تراكم يقود للتعلم من دروس تجاربنا وحقبنا، وهذا ما أراه فيما وقع للأزهر الشريف وللتعليم عامة.

وهنا أعود للشيخ حسن العطار الذى ولد فى القاهرة نحو 1182 هجرية 1768 ميلادية، وقال فيه الشيخ عبد الرحمن الجبرتى المؤرخ المشهور: «إنه قطب الفضلاء وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد، والفهم المسترشد الناظم الناثر الملم بالعلوم العقلية والنقلية والأدبية بحظ وافر». لقد كان شعار الشيخ العطار هو: «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، وكان أن بدأ بنفسه فلم يقنع بالعلوم المعروفة والمألوفة فى عصره، بل درس الهندسة والرياضة وتعمق فى دراسة الفلك ودرس الطب، وله هوامش كثيرة على كتبه، ودرس التشريح واتصل بعلماء الحملة الفرنسية، رغم رفضه للاحتلال، ودعا لإدخال العلوم الحديثة وحث على الرجوع لأمهات الكتب وعدم الاكتفاء بالحواشي، وهو الذى دعا رفاعة الطهطاوى إلى تسجيل كل ما تقع عليه يده من ذخائر الكتب خلال بعثته فى فرنسا.. والكلام يطول حول علم وثقافة ودور الشيخ حسن العطار، وما يمكن أن نتوقف عنده هو أن الرجل وقد أصبح شيخا للأزهر، وهو فى الخامسة والستين من عمره (1246 هجرية 1830 ميلادية) وبقى فى موقعه إلى أن توفى عام 1250 هجرية، حاول أن يطبق رؤيته التحديثية فى الأزهر، ولكنه لم يوفق لأن يفعل ما يريد خشية إثارة سخط فريق العلماء التقليديين، أنصار الحفظ والتلقين والشرح على المتون دون فهم نقدي، ولذلك ساند محمد على الذى ربما كانت لديه الخشية نفسها، فأنشأ تعليما موازيا بتأسيس المدارس العالية الفنية، كالطب والهندسة والصيدلة وبناء الترسانة البحرية، والتأسيس لجيش وطنى قوي، يعتمد على أبناء البلد من خريجى تلك المدارس ومن العائدين من البعثات العلمية فى أوروبا. وبالقطع فقد كان اتجاه محمد على لذلك مرتبطا برؤية الشيخ العطار ومنهجه. وعندئذ يكون السؤال هو ماذا إذا كان التطوير والتحديث وإنشاء تلك المدارس قد تم فى حضن الأزهر وداخله، وفعلنا مثلما فعل غيرنا فى أوروبا، حيث تبدأ الجامعة بكلية للاهوت وأخرى للحقوق أو القانون وثالثة للآداب ورابعة للعلوم، ثم تتوالى الكليات الأخرى، ولذلك لم نجد عندهم أى ازدواجية ثقافية أو وجدانية، ولا نجد تصادما بين العلوم اللاهوتية «الشرعية» وبين العلوم الحديثة، ولا نجد نوعين رأسيين من التعليم ينتجان تلك الازدواجية!

أعلم أن التاريخ لا يعرف «لو»، ولا مجال فيه للفرضيات، ولذا ليكون السؤال الأجدى هو كيف نحقق التقدم والتجديد ونتغلب على التخلف والركود! وعندئذ أشير إلى مسألة الانقطاع فى الخط البيانى التاريخي، لأن محاولة تطوير الأزهر فى الستينيات والتى أدخلت بموجبها كليات أخرى غير الشريعة والأصول واللغة مازالت تواجه بانتقادات حادة، أرها غير موضوعية، لأن ما اتجهت إليه مصر ثورة يوليو وعبد الناصر فى هذا الاتجاه كان الاستجابة المتأخرة لنداء وسعى وجهد مولانا الشيخ حسن العطار وتلاميذه النجباء عياد الطنطاوى ورفاعة الطهطاوى ومن بعدهما محمد عبده، وعلى نهجهم كان شلتوت والبهى وغيرهما!!

نحن الآن بصدد الانتقال من كارثة الخطوط البيانية القزمية المنفصلة إلى نعمة الخط البيانى المتصل التراكمي، وأرى أن دعوة الرئيس السيسى التى وجهها فى الاحتفال بليلة القدر هى نقطة الارتكاز فى المرحلة الجديدة.

والسؤال هو هل يقتصر التقدم والتجديد، أى الفهم والإتقان والاتصال بمتغيرات العصر وما استجد من أوضاع على كل المستويات على الخطاب الدينى ومكارم الأخلاق بالمعنى الأخلاقى الضيق أن يتجاوز ذلك إلى كل نواحى حياتنا؟!

الإجابة عندى وحسب فهمى المتواضع تتجه إلى أن آفة التخلف والركود بالحفظ والتلقين والتسميع منتشرة وبائيا فى مختلف جوانب حياتنا.. فالتعليم الجامعى غير الأزهرى فيه ما هو ألعن من الحفظ والتلقين والتسميع، لأن فيه آفة أسمها المذكرات، وهى مختصرات مبتسرة يتم شطب معظمها ويحفظها الطالب، ومن لا يشتريها أو من يتجه إلى المصادر والمراجع ـ إن وجدت ـ تكون واقعة أهله أسود من قرون الخروب، خاصة إذا عرف الأستاذ أنه لم يشترِ المذكرة أو الكتاب.. ولنا أن نعرف أن هناك صراعا بين الأساتذة ومساعديهم والمدرسين والمعيدين فى الأقسام، وفى الكليات كثيفة الأعداد، ومن ثم تباع فيها المذكرات والكتب بمئات الألوف سنويا!.. ناهيك عن غياب المكتبات والمعامل وقاعات البحث الجادة ونوادى العلوم وغيرها من مقومات الفهم والبحث والدراسة والإبداع والاختراع!، ثم حدث ولا حرج عن بزرميط المنظومة التعليمية، حيث لدينا جامعات مصرية وجامعات بريطانية وألمانية وأمريكية وفرنسية وغيرها مثلما هو حادث فى التعليم العام.. ونحن بالفعل فى كارثة حقيقية تم فيها إعدام أى نوايا أو نويات صغيرة لتعليم سليم فى مختلف المراحل!

بذلك ولذلك فإننا وقد سمعنا عن مشروع تجديد ثقافى يهتم به وزير الثقافة الحالي، وسمعنا أنه قد كلف به بعض كبار الباحثين الأكفاء ـ جمع كفء ـ فإن أمر التجديد والتحديث يجب ألا ينصرف فقط إلى مسألة الخطاب الديني، وإنما إلى البنية الثقافية ككل، وكيف نتحول بها من الحفظ والتلقين والتسميع أى من التخلف والركود إلى إعمال العقل وتنمية مهارات النقد والإبداع فى كل المجالات العلمية والثقافية والتعليمية.

لقد وصل المنتمون لمشروع التخلف والركود إلى حمل السلاح والقتل والإرهاب والتخريب للممتلكات العامة والمرافق الاستراتيجية وللأشخاص ولأفراد الشرطة والقوات المسلحة، دفاعا عن مشروعهم الذى رأوه فاشلا فى السياسة والحكم فأرادوه محققا بالقوة والدم، وليس أمام أصحاب مشروع التقدم والتجديد، إلا أن يسيروا وبأقصى سرعة وبإرادة لا تفل نحو النزول إلى الأرض بين الناس، وفى المؤسسات المعنية، تعليمية وثقافية، لتطبيق الخطوات الإجرائية التى تنمى الملكات وتثرى العقول، وتفتح الباب لتيار متجدد يكتسح ضمور التكلس والركود، وإلا صار الأكفاء جمعا لكفيف.

وقبل أن أنهى سطوري، حيث كتبت الخاتمة عند البداية، فإنى أذهب أيضا إلى أن الحفظ والتلقين والتسميع سمة غالبة فى مجال السياسة منتشر فى الأحزاب والحركات المدنية أيضا، فهناك من يحفظ ويستظهر متون الليبرالية، كما جاءت فى كتبها التقليدية، وهناك من يفعل نفس الشيء مع المتون الماركسية والمتون القومية، وكثيرا ما نجد أنفسنا إزاء خريجى «كتاتيب» وحافظى ألواح أصابهم الاغتراب عن الواقع وعن متغيراته، وأجد لزاما أن أقول: إن مشروع التقدم والتجديد وإعمال العقل للفهم والإبداع يتجاوز الانتماءات السياسية والفكرية الضيقة، لدى أطراف تيار الدولة الحديثة المصرية، وأن السعى لتطبيقه وتقوية جوانبه هو فى المبتدأ والمنتهى انتصار لكل ما هو عقلانى وتقدمى وتحديثي، فالقضية ليست قضية تنظيم الإخوان الإرهابي، ولا حركة السلفيين المراوغة المناورة، ولا منظومة العادات والتقاليد السلبية المعوقة للتنمية والتقدم بقدر ما هى قضية حاضر وطن ومستقبله ووجوده العضوى وحضوره الثقافى والحضاري.. يعنى إما أن نتمسك بأن مصر متراكمة الطبقات الحضارية والثقافية، التى عرفتها أزمان كانت فيها أم الدنيا المشعة فى العالم القديم، أو نقبل بمصير نكون فيه رعايا داملس: دولة الإسلام فى مصر وليبيا والسودان.
                                      
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 9 أغسطس 2014.

No comments:

Post a Comment