أؤجل الكتابة فى أمر أراه شديد الأهمية، هو ما يتردد عن
اشتراطات ضمنية قرر المجلس الأعلى للقضاء مراعاتها عند اختيار من يعينهم من
المتقدمين للعمل فى السلك القضائي، ويقال إنها تتصل بمستوى تعليم الأب والمستوى
«الاقتصادى الاجتماعى» للأسرة، وأتمنى أن يصدر عن المجلس الموقر ما يتضمن مسوغاته
الدستورية والقانونية والمنطقية والإنسانية التى يستند إليها فى اشتراطاته، إن صح
الأمر، ليتمكن من يريد مناقشة القضية من معرفة أبعاد الموضوع الذى يصل إلى أسماعنا
من طرف واحد هم المحرومون من التعيين.
وأنتقل إلى مسألة مطروحة وبشدة على جدول أعمال الوطن كله، هى
مسألة استيعاب الشباب الذين يقدر عددهم من سن الثامنة عشرة إلى الثلاثين سنة
بالملايين، وأبدأ بتساؤل محير أعترف بأننى لم أصل لإجابة عنه، ومازلت أسعى للوصول
إليها عبر اهتمامى بالحركة التاريخية فى مصر، وهو لماذا لم تنجح الصيغ السياسية من
الأحزاب والتنظيمات والتيارات ذات المرجعية المدنية فى الاستمرار ومواكبة
المتغيرات مع كل مرحلة، وكان مصير معظمها إن لم يكن كلها هو التآكل وربما
الانقراض،بينما تفلح التنظيمات التى يمكن أن نصفها بأنها «عقائدية حديدية مسلحة»
فى الاستمرار والتوسع والقدرة على التأثير؟!
إننا نرصد منذ تسعينيات القرن التاسع عشر مسيرة تلك الصيغ
المدنية، فهناك الجمعية الوطنية التى كان لها اسم آخر هو جمعية حلوان، لأن نشأتها
كانت هناك وأسهمت فى ثورة 1881، ثم جاء مطلع القرن العشرين ليشهد ميلاد حزب الأمة
1907 ثم حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، ثم الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل
ومحمد فريد، ونجد بعدها أحزابا طوى التاريخ صفحتها تماما كحزب أسمى نفسه حزب
النبلاء، وحزب الأمة القبطية، وتأتى الحرب العالمية الأولى وتشتعل معركة الجلاء
والاستقلال وينشأ الوفد المصرى ليبتلع الجميع، وبعده يولد حزب الأحرار الدستوريين
وحزب الشعب الذى أسسه صدقى باشا، وبعدها يتعرض الوفد للتشققات، فنجد الهيئة
السعدية 1938 ونجد الكتلة بقيادة مكرم عبيد فى 1943، وبالتوازى يعلو صوت الطليعة
الوفدية، ناهيك عن وجود مصر الفتاة.. والحركة الشيوعية بتفريعاتها!
وفى المقابل تنشأ الإخوان عام 28 وتستمر فى سياق أصبح من كثرة
الحديث فيه مثل المواويل الشعبية التى يحفظها الكافة تقريبا، ونرصد أن مسارها لم
يعرف الانقطاع بقدر ما عرف الصعود والهبوط ضمن خط بيانى متصل، وجاءت تنظيمات ثورة
يوليو منذ هيئة التحرير والاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى ليتأكد ما أذهب
إليه، وهو تآكل وربما انقراض تلك الصيغ ذات المرجعية المدنية، بينما هناك اتصال فى
مسار الصيغة الأخرى!
ولقد تصادف وناقشت الصديق المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى فى
الظاهرة، بينما كنت أستوثق منه المعلومات التى أوردتها فى السطور السابقة عن تاريخ
نشأة الأحزاب، وكانت القناعة المشتركة هى أن السمة الرئيسية الغالبة هى القبول
الجارف من الشعب المصرى بصيغة «الكل فى واحد»، فقد كان الوفد فى تكوينه ومساره
وعاء سياسيا جامعا للتنويعات الفكرية والأطياف الاجتماعية للشعب المصري، وكان فيه
جموع الفلاحين البسطاء من الأجراء وصغار صغار الملاك ثم صغارهم ومتوسطيهم، وصولا
إلى كبار كبار الملاك الزراعيين والحال نفسه فى بقية التركيبة أى من العمال
والرأسماليين العقاريين والماليين والصناعيين.. ثم إننى ومن وقت مبكر يعود إلى
فترة اشتداد إيقاعات الحركة الناصرية، كنت أقدم قراءة أظنها صحيحة لاتصال حلقات
التاريخ المصري، وهى أن جوهر الرؤية الناصرية فى التنظيمات السياسية مماثل لجوهر
التكوين الوفدى أى «الكل فى واحد»، بفارق مهم هو أن الصيغة الناصرية وهى تقبل
بوجود الرأسمالية الوطنية كعنصر من العناصر المكونة لتحالف قوى الشعب العاملة، استبعدت
قوى الاستغلال التى طالتها قوانين الإصلاح الزراعى والتأميمات، فلم يكن ثمة كبار
ملاك ولا كبار رأسماليين مثلما كان الحال قبل 1952.
وأظن أن النقلة التاريخية التى أرادت بها الناصرية أن تؤهل
الحراك السياسى المصرى لكى يغادر «محطة» إذا جاز التعبير «الكل فى واحد» ليمضى فى
مسار يؤدى إلى تعددية حزبية حقيقية، هى ايجاد تنظيم سياسى هو التنظيم الطليعى داخل
البناء الواسع أى الاتحاد الاشتراكى، ومعه منظمة الشباب التى تعد الشباب وتؤهلهم
وتعمق وعيهم الاجتماعى والسياسي، وبحيث يمكن عند انتهاء مرحلة التحول واستقرار
وتبلور الملامح الطبقية ومن ثم المصالح الاقتصادية وبالتالى التوجهات الفكرية
والسياسية فى المجتمع، يكون للطبقات الدنيا والوسطى حزبها أو أحزابها المعبرة عن
مصالحها وتوجهاتها، غير أن الأمر مضى فى مسار آخر مع حرب 1967 والهزيمة، وما حدث
بعد انتصار 1973 من تحولات انفتاحية فتحت الباب لتجريف الوطن سياسيا واقتصاديا
وثقافيا على النحو المعروف.
وربما تكون هناك قراءة أخرى تعتمد على ما قد يرقى إلى مستوى
الحقيقة التاريخية، وهو أن مصر بقيت منذ محمد على إلى الآن فى حالة تحول ولم يحدث
أن شهدت فترات استقرار سياسى اقتصادى اجتماعى طويلة، تترسخ فيها التوجهات
الاقتصادية والسياسية وتتحدد عبرها الملامح الطبقية المكتملة للمجتمع، وتعرف
الإرادة الوطنية مسارها الاستراتيجى طويل المدى لتنظم خطواتها عليه، وكان ما حدث
هو أن كل مشروع تعرض للإجهاض أو الانقطاع بعد فترة من بدئه.. هكذا كان ما جرى مع
مشروع محمد على ومشروع إسماعيل ومشروع عبدالناصر، ولم تأخذ مصر فرصة كافية لالتقاط
أنفاسها.. ومن هنا تلاشت الصيغ السياسية، لأنها لم تجد الأرض الصالحة لاستمرار
نموها وتطورها.. ولذلك كان الأكثر نجاحا هو التنظيمات المغلقة العقائدية المسلحة،
أى التى تؤمن بالعنف سبيلا للتعبير عن علاقتها مع الآخر فى الوطن، حيث يكون
الانطلاق من أرضية العقيدة الدينية بالمفاهيم الانغلاقية هو الصدفة الحامية
للتنظيم.. تحميه من التقلبات ومن المتغيرات ومن غياب التراكم فى محيطه الاجتماعى
والثقافي، وأصبح واردا أن تكون تلك الصيغة «العقائدية الحديدية المسلحة« ملجأ
لكثير من المحبطين من فشل المشاريع الأخرى، ولكثير من الباحثين عن الخلاص الشامل
باللجوء لما له علاقة متصلة بالسماء.. وفى سبيل الخلاص يكون الانغلاق والولاء
ويكون الموت أسمى الأمانى لأنه فى سبيل الله!
ترى هل يمكن الوصول إلى تكوين سياسى بصيغة «الكل فى واحد» من
أجل إنجاز التحولات الكبرى!!، أم يمكن قيام جبهة وطنية من أحزاب متعددة، بحيث
نحافظ على التعددية ونوظفها لخدمة الهدف الوطنى المجمع عليه، ويكون ذلك تطويرا
تاريخيا لفكرة «الكل فى واحد»، وهل من الوارد بناء وعاء سياسى شبابى له سمة وطنية
جامعة، يكون هو الحاضنة لتلك الملايين الشبابية ويكون المفرخة التى تمد الحياة
السياسية بالعناصر المهيأة فكريا وثقافيا؟!
كلها أسئلة هائمة تبحث عن إجابات.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 23
أكتوبر 2014
No comments:
Post a Comment