بدأ العام الجديد وقد استقر فى وجدان الناس عموما أن الآمال
والتمنيات تنصرف دائما إلى الخير والسعادة والإنجاز والتفوق وكل ما هو جميل،
ونادراً ما يلتفت أحد إلى أن بعض
البشر يأملون شراً ويتمنون دماراً وخرابا، وفيهم من انتقل من دائرة الأمل والتمنى
إلى مستنقع الفعل الشرير وارتكاب التدمير والتخريب، ولا بد من التصدى لذلك بالفعل
الذى يمتد من المقاومة بالعلاج الفكرى والسياسى وأيضا الطبى النفسى إلى إنزال
العقوبة وفق القانون ومقتضيات الموقف!
ومع العام الجديد تتركز الآمال والتمنيات - فى جانب كبير منها
- على مؤسسة الرئاسة، وتتوزع بين من يريدون لهذه المؤسسة أن تكون منحازة للطبقة
الرأسمالية فكراً وممارسة باعتبارها الطبقة التى يمكن أن تمثل قاطرة للتنمية
والتقدم والليبرالية والعلمانية وتنقذ البلد مما هو فيه. وفى سبيل ذلك تتجه هذه
الطبقة إلى تثبيت سيطرتها على الإعلام المرئى والمقروء، وعلى أجزاء من التعليم
بمرحلتيه العامة والجامعية، وعلى الحياة الحزبية عبر تولى بعض رموزها مواقع
القيادة فى عديد من الأحزاب، ناهيك عن استمرار ظاهرة المال السياسى الذى يتدخل عند
اللزوم وأحيانا بلا لزوم ليقول: نحن هنا! وتتجه تلك الطبقة أيضا إلى التصدى
الهجومى ضد ما تعتقد أنه يعوق مسارها، فلا تتورع عن المطالبة باستئصال ونفى الآخر
المتمسك بتعميق العدل الاجتماعى، أى الاشتراكيين بشقيهم الناصرى والماركسى، ولا
بأس من التعاون مع الإسلامى مادام من المشرب الرأسمالى نفسه، كما حدث فى المرحلة
منذ بداية الانفتاح أواسط السبعينيات، إذ لم تكن مصادفة أن يتم «الصلح» - إذا جاز
التعبير - بين الحكم ممثلا فى السادات وبين الإخوان مرتبطا بالتوجه نحو الاقتصاد
الحر أو الانفتاح الاقتصادى، الأمر الذى بلغ ذروته أواخر عهد مبارك عندما سمح
للإسلام السياسى والرأسمالى أن يلعب دوراً واضحاً وكبيراً فى قاعدة المجتمع ودوراً
ملحوظا فى المؤسسة التشريعية!
والاتجاه الثانى الذى يحاول رسم الطريق لمؤسسة الرئاسة هو
المنادى باتخاذ إجراءات جذرية ثورية على غرار بعض ما اتخذ فى الخمسينيات
والستينيات وأن تبدأ على الفور عملية استكمال ثورة الجماهير فى 25 و30 بموجات من
المواجهات على الصعيد الداخلى والخارجي، لأن الظروف فى نظر أصحاب ذلك الاتجاه أكثر
ملاءمة من مثيلتها فى الخمسينيات. وعلى عكس الاتجاه الأول الذى يثبت أقدامه فى
الواقع الاقتصادى الاجتماعى والسياسى فإن الاتجاه الثانى يكتفى بالتحريض والتهييج
والبراعة فى رص العبارات، وإذا حاولت أن تبحث فى «أرشيفه» فلن تجد سوى محاولات
مخلصة للفعل الثورى عند البعض ولكنها قزمية مبتورة غلب عليها التمزق والتفتت، بل
إن بعضها بدا وكأنه متخصص فى إجهاض أى تبلور لقوى التغيير ونحرها على مذبح الزعامة
الفردية والكاريزما الوهمية، وفى هذا تفاصيل كثيرة أصبح يعرفها القاصى والدانى.
ثم يأتى الاتجاه الثالث الذى تتلخص رؤيته لدور مؤسسة الرئاسة
فى أن تحمى البلد من الِإرهاب الذى يفتك بجسده بطريقة غير مسبوقة، وأن تستمر فى
الإنجاز العملى، سواء بإقامة المشروعات التى أعلن عنها والتى مازالت قيد البحث،
وأن تتصدى للإفساد والفساد، وأن تحصن نفسها من الاستبداد، وأن تستمر فى استعادة
دور مصر فى مختلف دوائر حركتها الخارجية عربياً وإفريقياً وآسيوياً ومتوسطياً..
إلى آخره، وكلما حدث إنجاز عملى فى هذه الجوانب اعتبر ذلك أقوى برنامج وأعمق رؤية
يمكن تقديمها للأمة!
ولست بصدد الاستطراد فى شرح أكثر تفصيلا لتلك الاتجاهات، لأننى
لا أنكر انحيازى للاتجاه الثالث الذى قد يجد فيه الرأسمالى والاشتراكى كلاهما
مبتغاه.. فالمشروعات الكبرى والصغرى تفتح الباب لدور رأس المال وتعظيم أرباحه،
وتفتح الباب لتوسيع الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، الأمر الذى يفتح الطريق للصراع
الاجتماعى التاريخى والصحى الذى من خلاله وصلت مجتمعات أخرى فى الغرب والشرق إلى
حالة من التوازن النسبى!
ولست أيضا بصدد تفنيد الاتجاهين الرأسمالى والتحريضى، فلطالما
كتبت وتكلمت عن سلبيات الرأسمالية المصرية واستخزائها عن القيام بالدور الذى قامت
به رأسماليات مجتمعات أخرى، وفى الوقت نفسه كتبت وتكلمت عن اختلاف المشهد ظروفا
وأطرافا عن عقدى الخمسينيات والستينيات، ولكننى أعترف - فى هذا المقام - بأننى ما
زلت متردداً فى أن استكمل الموقف بأن أستدعى رؤية الزعيم جمال عبدالناصر بعد 1967
وكيف أنه تحدث غير مرة عن وصول النظام إلى طريق مسدود وأن تغييرا جذريا لا بد أن
يتم، وهناك وثائق لاجتماعات على أعلى مستوى تحتوى نصوصا شديدة الأهمية!
وربما يكون الأصوب - من وجهة نظرى - هو أن يستمر تحفيز ودفع
التوجه للإنجاز العملى على مختلف الاتجاهات، ابتداء من ترسيخ مواجهة الإرهاب بكل
السبل المشروعة فكراً وسياسة وأمنا وقتالاً، وتوسيع دوائر الفعل الإيجابى ليتلمس
الناس فعليا أنه لا استبداد ولا إفساد ولا فساد، وأن الباب مفتوح للجميع للمشاركة
فى بناء وطنهم، وهذا من شأنه أن يوجد الوعى الوطنى ويعمقه ويوسع دوائره، بحيث يعرف
الجميع أن العمل، والعمل وحده، هو المعيار الذى يحدد للإنسان مكانه ومكانته فى
المجتمع.
ولقد حدث من سنين طويلة أن اقتنع الرئيس السادات بحكاية أن
تكون له رؤية، وكان طبيعيا أن تأتى مخالفة لما سبقه، حيث كانت الرؤية مصاغة فى
فلسفة الثورة وميثاق العمل الوطنى وبيان 30 مارس، أى الوثائق الناصرية، فاتجه
السادات إلى اعتماد ما يسمى بالاشتراكية الديمقراطية، وأخذ المفكرون فى مراكز
الدراسات - آنذاك - يؤصلون للاشتراكية الديمقراطية وعرف الناس اسم كرايسكى، والتقى
الحزب الحاكم فى مصر مع حزب العمل الإسرائيلى فى منتديات الاشتراكية الديمقراطية
الدولية.. ثم كان أن طلب السادات من المفكر الماركسى الراحل الأستاذ لطفى الخولى
أن يكتب له وثيقة تعبر عن المنهج والرؤية وتكون بمثابة نظرية.. فكتب لطفى الخولى
عن مدرسة السادات السياسية، وبدا الأمر وكأن الحكم أصبح يملك منهجا ورؤية ونظرية..
ثم كان ما كان، ولن تسمح المساحة لأن استكمل بأنه فى سالف العصر والأوان.. كان
هناك وطن عاش تجربتين صارت كلتاهما لطريق مسدود!
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 1 يناير
2015
No comments:
Post a Comment