كان للفاتح من سبتمبر، أى الأول من شهر سبتمبر
وقد صادف أمس الأول، مكانة خاصة عند كثيرين، توزعوا بين من قاموا بالتحرك ساعة
الفجر منه عام 1969 ليغيروا نظام الحكم فى المملكة الليبية وأطلقوا
على أنفسهم اسم الضباط الوحدويين الأحرار، وعرف فيما بعد أن قائدهم شاب برتبة
الملازم أول لا يتجاوز عمره السابعة والعشرين واسمه معمر أبو منيار القذافي، وبين
من تحمسوا للحدث وساندوه واعتبروه عند قيامه ولسنوات طويلة بعدها انتصارا للخط
القومى العربي، وللتيار الناصري، وبين من وجدوا فيه فرصة تتجلى فيها كل مهاراتهم
العقلية والنفسية الاحتيالية الانتهازية التربحية إذا جازت الأوصاف.. وينضم إلى كل
هؤلاء أخيرا خصوم هذا التغيير وأعداء ذلك المنهج، وقد توزعوا على مساحة كبيرة تضم
عربا أقحاحا وإسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية!
وربما كانت ثورة الفاتح كحدث ومسار ومعها فى
وحدة عضوية قائدها معمر القذافى من أكثر الظواهر السياسية تعقيدا وغرابة، ليس فى
المنطقة وحسب وإنما فى العالم كله، وربما لم يتكرر نموذج مشابه لها منذ عرفت
البشرية النظام الجمهورى الذى كان لمعمر القذافى السبق فى التنظير لتجاوزه،
باعتباره مرحلة منقضية حل محلها العصر الجماهيري، ولذلك حملت ليبيا اسم الجماهيرية
العربية الليبية!
عن نفسى أبدأ باعتراف هو أنه منذ الأيام التى
جرت فيها الأحداث التى أدت إلى مصرع معمر القذافى ومعه أبو بكر يونس وآخرون وأنا
أتأمل وأتابع بدقة شديدة وأتأثر لدرجة الألم وتمزق المشاعر وتعطل التفكير كلما تم
الإمعان فى تفكيك وتفتيت وتدمير الوطن الليبي، ولذلك لم أعمد إلى الكتابة المباشرة
ولا إلى اتخاذ موقف واضح معلن!.. ليس لنقصان فى الشجاعة ولا لنقص المعلومات وإنما
لأن ما جرى كان وسيبقى محطة فى مسيرة التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التى
عرفتها المنطقة، التى أسميها الوطن العربى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية
وأيضا بعد حرب 1948.
ثم إننى لست بصدد كتابة تاريخ تلك التحولات لأن
دور المؤرخ لم يأت بعد، لأن الأحداث لم تكتمل ومازالت تتراكم كميا وتتحول كيفيا..
ناهيك عن أننى اعترف أيضا بافتقادى إمكانية ممارسة التجرد الموضوعى النسبى الذى
يفترض وجوده لدى المؤرخ لأننى اعتبر فى أعراف مناهج البحث شاهدا على الأحداث وفى
بعض الحالات مشاركا فيها!
عندئذ يكون السؤال ولماذا الكتابة الآن إذن؟
وأجيب مباشرة لأننى قبل كتابة هذه السطور مساء الثلاثاء ـ أمس الأول ـ كنت قد شرعت
فى كتابة مقال عن محنة تعاملى مع إدارة وبريد الأهرام، وهى محنة قاسية وغريبة بكل
المعايير، وكنت قد انتهيت من نصف المقال تقريبا إلا أننى أجلته.. وبعدها شرعت فى
الكتابة عن السوس الذى ينخر الدولة المصرية والعتة التى تهتك نسيجها، وفى لحظة
سألت من معي: « النهارده كم فى الشهر؟!» فقيل الأول من سبتمبر، وعندها أطل أمامى
مباشرة وجه كثير من الأصدقاء الليبيين الذين عرفتهم واقتربت منهم وناقشتهم
وعاركتهم وصافيتهم لسنين طويلة ممتدة من فبراير 1972 وإلى الآن!.. وتذكرت الفاتح
من سبتمبر والمهرجانات والندوات والوفود الحاشدة وحلقات المدح التى انقلبت فى كثير
من الأحيان إلى طقوس عبادة أو ممارسة هيستيرية، كما يحدث فى حفلات الزار.. وكم من
وجوه وسحن رأيتها تتفجر حماسا للفاتح وللقائد وللثورة وللجماهيرية وللكتاب الأخضر
وللنظرية العالمية الثالثة وللجان الثورية، وتشتعل جمرا حارقا يكوى أى صاحب ملاحظة
ولو بسيطة ليتم اتهامه بالتخلف والرجعية كحد أدنى أو يصل إلى المقصلة البدائية كحد
أقصي.. وهى المقصلة التى تكونت من صندوق مياه غازية فارغ يقف عليه الكلب الضال
ويوضع الحبل المتدلى من عارضة بملعب أو شارع حول عنقه ثم يتم ضرب الصندوق من تحت
قدميه ليتدلى وهو يصرخ!!.
كنت قد اتخذت قرارا ومعى صديقى المرحوم الأستاذ
كامل زهيرى ألا ندخل ليبيا ثانية، وكان ذلك عام 1987 إثر دعوتنا لندوة عالمية عن
مستقبل العمل الثورى الجماهيري.. وتقريبا كان كامل وأنا وحدنا اللذين أخذا وضع
المراقب المدقق وصرنا نتأمل ما يجرى من وقائع يقوم بها عشرات من المثقفين
والسياسيين العرب، وبالمصادفة البحتة كانت الغالبية من الأحزاب والحركات التى
تستند للماركسية اللينينية وعندها مال كامل زهيرى على أذنى هامسا وضاحكا:
«ولد ــ وله ــ مش ملاحظ إننا انتقلنا على يد
الشيوعيين العرب من الماركسية اللينينية إلى الماركسية الليبية»! وانفجرت ضاحكا..
وكان الجزاء الوفاق الذى أنزل على كامل وعلى العبد لله جراء الإحساس بموقفنا غير
«المبلوع» هو إهمالنا لدرجة أنهم قرروا ذهاب كل المشاركين لمقابلة القائد «معمر»
فى سرت، عدا كامل وأنا وبقينا فى الفندق نطرق كل الأبواب لنتمكن من العودة
للقاهرة، ولا فائدة حتى تم حل الموقف بطريقة مضحكة.. سأحكيها فى وقتها!
كنت أرقى إلى مستوى الصديق المقرب لقيادات من
الصف الثانى فى قيادة الثورة.. وكنت من المرحب بهم لدرجة الصداقة الودودة مع
الراحل النبيل الذى قتله وفاؤه أبو بكر يونس.. وكنت مناقشا عنيدا ومفلوت اللسان مع
عبدالسلام جلود، وتعرفت على الخويلدى الحميدى ومصطفى الخروبي، وجلست مع معمر
القذافى مرتين إحداهما استغرقت وقتا طويلا فى منزل أبو بكر يونس وكان معى العبقرى
الفنان المرحوم عبد الرحمن الخميسى ونقيب الصحفيين المرموق حسين فهمى والمحامون
عبد العظيم المغربى ومحمد المسمارى ومحمد علوان.. رحم الله من غادرنا منهم.. وكانت
جلسة لابد أن تكتب وتنشر!
عرفت واقتربت جدا من صالح الدروقى وسالم بوشريدة
وعرفت عمر الحامدى وعبد الله حجازي.. وكنت وسأبقى من أقرب الأصدقاء لعبد القادر
غوقة.. وكل واحد من هؤلاء له قصة وله الدراما الخاصة به!
فى ليبيا الجماهيرية تعرفت على الأخ الأستاذ
مجدى سلطان حسين ابن عم الزعيم جمال عبد الناصر، وعلى مصطفى شقيق الرئيس وعلى
آخرين من أهلنا المصريين الذين وجدوا سندا وعملا وأملا هناك!.. وفى خضم هذا كله
حضرت اجتماعات مشتركة بين تنظيم الطليعة العربية الذى كنت من قياداته وبين تنظيم
اللجان الثورية الذى يقود الثورة هناك، وفى الاجتماعات اتهمنا بأننا متخلفون لأن
القومى العربى الحقيقى فى نظر عبد السلام جلود واللجان الثورية هو من يلتحق
بالثورة الليبية ويؤمن بأسلوب ومنهج «اللجان فى كل مكان» وأن من «تحزب خان»، وأن
عبد الناصر مجرد زعيم تاريخى مضى عهده مثله مثل عمر المختار وصلاح الدين وحتى عمر
بن الخطاب.. وعلى القومى الذى يريد تحقيق الانتصار العالمى أن يؤمن بأطروحات
الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة.. وكان من حظى أن أتولى الرد على الأخ
جلود فى جلسة ساخنة كان من حضورها مصريون ولبنانيون وسوريون ربما لا يريد بعضهم أن
أذكر اسمه!
نعم عشت مع الأحداث من 1972 وكنت وسأبقى شاهدا
حيا إلى أن أموت فأصبح صاحب مذكرات.. تخضع شهادتى وذكرياتى لعلم النقد التاريخى
ولا يمكن أن تكون مسلمات لا تناقش، ثم أختم هذه العجالة الهائلة بالقول مرة أخرى
إننى حتى اللحظة الحالية أقطر حزنا على صديقى أبو بكر يونس الفارس النبيل الذى
قتله وفاؤه لرفيق نضاله وقائد ثورته.
نشرت في جريدة الأهرام
بتاريخ 3 سبتمبر 2015
لينك المقال:
No comments:
Post a Comment