كل وطن عند أبنائه لا يعلى عليه.. لا قبله أوطان
ولا بعده، بل إن الأمور في هذا الشأن تتضاءل وتضيق إلى أن تصل لما قد يبدو
ميكروسكوبيا قياسا على الوطن ذاته.
وسأضرب مثلا- بعد إذنكم- بنفسي إذ دخت دوخة
البلجيكي ــ ولا أدري أصل المثل ــ وأنا أبحث عن قبر في مناطق شرق القاهرة، وزرت
أكثر من مقبرة بالقرب من مدينة نصر وفي القطامية والعاشر من رمضان وخلافه، وتراوحت
الأسعار عبر السماسرة من نصف مليون تقريبا نزولا إلى خمسين ألفاً غير أتعاب
السمسار!
وفي كل ذلك كنت أجد رفضا داخليا عنيفا في كياني
كله، إذ يتضاعف حنيني لقبرنا القابع في "ترب أبو الفتح" تحت أشجار
الجميز وبالقرب من دارنا القديمة ومن ضريح سيدنا الشيخ إبراهيم بصيلة، وحيث يرقد
أبي وأمي وأعمامي وجدتي، فيما بقية العائلة في "ترب أبو العبد" على بعد
خمسمائة متر!
على ذلك فالحنين للوطن ولمسقط الرأس ومرقدها
شعور لا يوصف بسهولة، ومع ذلك كله فإنني ممن يرون أن حياة الأوطان لا تزدهر
بالمشاعر والحنين وفقط، وإنما بالعمل والعلم والثقافة وعمق الانتماء، وأيضا بتعلم
دروس التاريخ والتعلم من مسيرة الشعوب الأخرى، وتلك الأخيرة هي مربط الفرس في هذه
السطور، بعد المقدمة التي تبدو إنشائية إلى حد ما!
لقد سمعت وقرأت عن ذلك الذي خرج على الناس في
برنامج تليفزيوني وأخذ ينتقد الأزهر وصار يصعّد الانتقاد حتى صار تهجما، وتحول
التهجم إلى اتهام بالإرهاب الدولي..كل هذا مقدور عليه ويمكن التعامل معه باعتباره
رأيا وموقفا لصاحبه ويمكن للأزهر أن يرد عليه.
ومن الأزهر تطورت المعزوفة إلى أن وصلت إلى أعلى
درجات "الكريشندو" فتعاظم الصوت مع ملامح متجهمة عابسة! وكان الفتح غير
المسبوق وهو أن العرب احتلوا مصر!
أما المسبوق فهو أن العبد لله ناقش الدكتور ــ
دون معرفة يقينية بنيله الدرجة ــ سيد القمني في هذا الأمر، حيث كنا تحت خميلة
الأشجار الوارفة بحديقة الصديق المشترك المهندس منير لطيف ـــــ نيح الله روحه
ـــــ إذ كان صديقا كريما وفيا مترفعاً عن الخوض فيما يحتدم به الخلاف والاختلاف،
وكان ذلك منذ عدة سنوات ويومها أغلظت القول ولم أعتذر!
وبداية يمكن أن نتكلم عن غزو عربي، مسقطين حكاية
الفتح، لأن المؤرخين القدامى تكلموا عن غزوات ابتداء من بدر وانتهاء بآخر معركة
تمت في حياة الرسول، وكان وصف الفتح من نصيب مكة وحدها بعدما دخلها الرسول وجيشه
وحدث ما هو معروف للكافة.
ثم إن العالم كله ــــ وأقصد هنا العالم القديم
أي أوروبا وآسيا وإفريقيا ــــ عرف حركات بشرية تمت في شكل هجرات كبيرة واسعة لبشر
من مناطق إلى مناطق أخرى بحثا عن الموارد الطبيعية المطلوبة للحياة آنذاك
"الكلأ ــ الحبوب ــ المياه"، وفي شكل حروب واسعة يغزو فيها بشر أرض بشر
آخرين، وقد حدث ذلك بعد الميلاد، أي طيلة القرون الأولى إلى نهاية العصور الوسطى
تقريبا.
وعلى سبيل المثال فقد تحركت القبائل الشمالية
"الفايكنج" باتجاه بلاد أخرى كبريطانيا مثلا واستقروا فيها وتناسلوا،
وتحركت القبائل التي اصطلح على تسميتها بالبرابرة ــــ قياسا على تحضر روما
وإمبراطوريتها ــــ وقدمت من مناطق الاستبس إلى الإمبراطورية الرومانية واكتسحت
جحافل الجرمان والهون والماجيار والسلاف والقوط بقية أوروبا خاصة أراضي
الإمبراطورية وسقطت روما في سبعينيات القرن الخامس الميلادي، وظن المواطنون
الرومان أنها نهاية العالم! ولم ينته العالم.
ثم إنني قلت للدكتور القمني ــــ وعلى مسمع من
حضور عديد من الأصدقاء ـــــ أن هناك مثالا يكاد يقترب من الحالة المصرية.. وهو أن
الإمبراطورية الرومانية كانت تضم بلاد الغال الرومانية التي امتدت من شواطئ
المتوسط إلى القنال الإنجليزي، ومن الأطلنطي إلى نهر الراين والألب الغربية، وهي
مساحة تضم فرنسا الحالية وبلجيكا وأجزاء من ألمانيا وإيطاليا (راجع الموسوعة
البريطانية خريطة 'Romangaul' ومادة "Gaul geographic-historical scope").
ثم جاءت القبائل المتبربرة ومنها الجرمان وفيهم
فرع رئيس منهم هو الـFrank، أي الفرانك الذين قادهم
ملكهم كلوفيس الأول وغزا بهم بلاد الغال، خاصة المساحة المعروفة الآن بفرنسا، التي
جاء اسمها من اسم القبائل ذاتها.. وكان يسكنها القوط الغربيون الذين دخلوا
المسيحية واعتنقوا المذهب الأريوسي المنسوب لأريوس السكندري، حيث كان القديس
أولفيلا قد ترجم الإنجيل وفق الرؤية الأريوسية ونشره في القبائل الرعوية إياها..
وتمكن كلوفيس من تغيير اسم البلاد من بلاد الغال
الرومانية إلى فرنسا، وغيّر مذهبها من الأريوسية إلى الكاثوليكية، كما غيّر لغتها
أيضاً، ومن تلك السلالة جاءت أسرتان عظيمتان في التاريخ الفرنسي الأسرة
الكارولينجية والأسرة الميروفينجية.
وجاء منها الإمبراطور شارلمان العظيم الذي غيّر
التاريخ السياسي لأوروبا عندما رفض أن يضع البابا التاج الإمبراطوري على رأسه،
وأخذ التاج بيديه وتوّج نفسه.. وعندئذ أصبح الملك هو من يتوج نفسه، وانتفت السلطة
البابوية في هذا المضمار!
إننا لا نجد أحدا عاقلا أو حتى مجنونا في فرنسا
يخرج على فضائية أحد المليونيرات الذين عرف عنهم الإنفاق على بعض المثقفين ــــ
وهذا أمر محمود ــــ ليقول على الملأ: بلاد الغال تعاني من وطأة الاحتلال الفرنسي،
وأن كلوفيس الأول غاز محتل، وأن قبائل الجرمان ــــ ومنهم الفرانك وغيرهم ــــ
برابرة أجلاف نقلوا ثقافة الرعي إلى أرجاء الإمبراطورية الرومانية ودمروا التراث
الاغريقي ــ الروماني واستبدلوا بالإله زيوس والإله جوبتر وبالثقافة العظيمة ـــ
بآدابها وفنونها ـــ ثقافة الأجلاف الرعاة الجرمان وغيرهم!
وبدلا من العويل واللطم وتفجير قضايا عفى عليها
الزمن ولن تقدم شيئا للبناء والنهوض امتصت تلك المجتمعات القادمين وهضمتهم وتكلمت
لغتهم واعتنقت مذهبهم الديني ومضت في طريقها لتراكم تاريخها وتصنع تحولاته الكيفية
ليصبح التاريخ عندهم حلقات متصلة أثرت وتأثرت ببعضها البعض، وانتهى اسم بلاد الغال
من الجغرافيا وإن بقي في التاريخ يدرسه المتخصصون ولا يبكي عليه المثقفون!
ومن عجب أن نجد الآن موجة غريبة تصاعدت طرطشتها
لتشمل كلاما عن المسجد الأقصى وأنه ليس ذلك الذي يحتل وجدان الملايين من المعادين
للعنصرية الصهيونية، كما يشمل كلاما عن الاحتلال العربي لمصر..
وكأن الوطن ناقص تمزيق وتفتيت، فانتقلنا من
التمزيق والتفتيت على مستوى الدين والطائفة والمذهب والجهة والمستوى الاجتماعي إلى
مرحلة تمزيق التاريخ وبث الألغام في مفاصل اتصال حلقاته.. لأننا لن نفاجأ بمن
سيقول بالتالي إن المسيحية دخلت في ظل الاحتلال الروماني وأن مرقس الرسول لم يكن
مصريا وأنهم دمروا ديانة مصر القديمة واستبدلوا الإله رع وآمون والبقية بإله آخر!
هل من الاحتياجات الأساسية لمصر الآن بث الألغام
في مفاصل حلقات تاريخها؟ وهل من لزوميات البناء والنهوض الإنساني بوجه عام أن تفتش
المجتمعات عن عوامل تفتيتها وإشعال بؤر الصراع العدمي في جنباتها؟
مجرد استفهام.. ولكنه بعد إذنكم استنكاري!
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يناير 2016
No comments:
Post a Comment