أبدأ بمدخل قد يراه البعض خفيفاً لا يتناسب مع
غلظة ما نعاصره من أحداث وهموم، وقد يراه آخرون باباً من الكتابة لا يجب أن يضمر
أو يختفي.
وعادة ما يتحفني السيد أحمد لطفي، الفيزيائي
وخبير الطيران وأيضا الكاتب والقارئ، بفيض معلوماته، وعندما شكرته على ما سبق
وأرسله حول قضية قبح البذاءة، رد وهو يحاول التواضع، فقال إن ما كتبه هو قطرات في
نهر ما أكتب، ومن فوري- رددت- على البريد الإلكتروني "أن النهر بغير القطرات
هو مشروع مستنقع"!
في المقال الفائت أشرت إلى "دوخة
البلجيكي" التي نصف بها من يلف ويدور بحثاً عن شيء، أو للوصول إليه، وهكذا
كان حالي فيما أبحث عن مثوى صحراوي قريب من القاهرة، وقلت إنني لا أعرف من أين
جاءت تركيبة "دوخة البلجيكي"، فما كان من السيد أحمد لطفي إلا أن عاجلني
بإجابة أظنها سليمة وشافية.
إذ أشار إلى أن دوخة البلجيكي جاءت من المسار
الدائري الذي كان يسير فيه الترام بالإسكندرية، وكان الترام مصنوعا في بلجيكا،
وحمل اسمها تمييزا له عن ترامات بجنسيات أخرى، وقال إنه كان مطليا باللون الأصفر،
ولذلك ظل الإسكندرانية يسمونه "التراماي الصفرا"، وصار له قرابة نصف قرن
يجري ببطء شديد كالسلحفاة العجوز، مخترقا أكوام الزبالة وعشوائيات المرور، ويقتصر
مسار ذلك الترامواي الآن على حي محرم بك وعرفان مرورا بمحطة مصر وانتهاء بالمنشية
والأحياء التي يطلق عليها الإسكندرانية "بحري"، ابتداء من شارع محمد
كريم مرورا بسيدي المرسي أبو العباس والإمام البوصيري "الأباصيري"، ثم
أحياء السيالة والأنفوشي وانتهاء بحدائق راس التين..
ثم أضاف السيد أحمد لطفي معلومة أخرى عن أصل
كلمة "الزوفا" أو "الزوفة" التي نستخدمها بالعامية للدلالة
على الكثرة العشوائية، ونسبها إلى ما جاء في كتب الطب القديمة لعلماء كابن النفيس
الذي وصف النباتات الطبية وميز فيها بين أدوية مفردة وأخرى مركبة تتكون من عدة
مكونات، وشاع اسمها الفارسي "الاقربازين" وكتب ابن النفيس مقالين عن
نبات اسمه "الزوفا" بصنفيه "الرطب، والجاف"، وهو حشائش تتمدد
أغصانها على الأرض بكثافة ملحوظة، ونظرا لصعوبة تقدير كمية حشائش الزوفا وصعوبة
وزنها وتحديد مقدارها كان يتم التعامل معها بالجملة وبغير تقدير دقيق.. يعني
بـ"الزوفا".
والشكر موصول ومؤكد لصاحب المعلومات المفيدة
التي أضحت نادرة، إذ كثيرا ما نردد مصطلحات وتركيبات لغوية عامية أو فصحى في
أحاديثنا اليومية دون أن نعرف أصلها، مثلما كتبت من قبل عن تعريف الكعب والكوع
والبوع والكرسوع، والفرق بينها.
ومثلما هو أصل عبارة "سلقط وملقط"
عندما نبحث عن شيء ولا نجده، وأصلها أن اعرابيا اشترى جرة "زلعة فخارية"
ممتلئة عسلا وعاد لمنزله وأخذتها زوجته وخزنتها وبعد فترة طلب منها أن تأتيه ببعض
من العسل، وإذا بها تميل الجرة فتجدها فارغة.. وهاج الزوج وماج وصاحت المرأة: لا
أعرف أين اختفى أنه "ما سال قط وما مال قط" فصارت سلقط "سال قط"
وملقط "مال قط" إذ لم يعرف الاثنان أن العسل قد يتحول إلى سكر فيلتصق
بالوعاء ولا يسيل.
ومن الخفة إلى الغلظة إذ يحتدم تقطيع الهدوم بين
"الينايريين" وبين "اليونيويين"، وبينهما وبين آخرين لا
يعتدون لا بيناير ولا بيونيو ولا حتى بأي شهر من شهور السنة الميلادية.
وهو أمر أراه متسقاً تماما مع ما نشاهده ونتابعه
ويضنينا الآن.. متسقا مع تقطيع الأعناق بين السنة وبين الشيعة.. ومع تفجير الأشلاء
بين الدواعش وبين الناس، ومع تمزيق الخيوط بين دعم مصر وبين المستقلين والأحزاب في
مجلس النواب، ومع الصراع الدموي بين "النقل أم مقطورة" و"التريللا"
وبين بقية ذوات الأربع عجلات من ميكروباصات وملاكي وذوات الثلاث من تكاتك، وحتى
صرنا نحتل المركز الأول في العالم في عدد ضحايا حوادث الطرق، ولله الحمد أن صرنا
"الأول" ولو بالأشلاء والدماء!
ناهيك عن القسمة الخبيثة التي وزعتنا بين مدنيين
وعسكر، وعن المبارزات الوهمية التي تتم بسيوف من صفيح بين من ينبشون في الركام
للكلام عن الوقائع التي حدثت في أربعينيات القرن السابع الميلادي هل هي غزو أم فتح
أم احتلال.. أي عن دخول العرب المسلمين لمصر!
وكذلك الحال عن المسجد الأقصى هل هو ذلك المشهور
المتعارف عليه في مدينة القدس التي اسمها عند اليهود أورشيلم، أم هو بناء آخر في
مكان بين المدينة وبين مكة، وهل هو أكذوبة أموية أو هو حقيقة أجمعت عليها
الملايين!
فإذا أضفنا لكل ما سبق خناقات الإخوان
الإرهابيين داخل صفوفهم.. وخناقات السلفيين بين حزبيين وجهاديين وخناقات الناصريين
وخناقات الماركسيين والاشتراكيين، وخناقات مذيعي التوك شو، والمفاضلات بين محلب
وبين خلفه، وما ظهر مجددا حول تخطيط من شفيق وعنان للتحرك ضد 30 يونيو في 30
يونيو؛ لأدركنا أننا حالة الدراسة التي حكت عنها الحكاية التي تقول إن واليا في
زمن عتيق نادى وزراءه وطلب الى كل منهم أن يأخذ "شوالا" في الصباح
المبكر ويملؤه بمائة فأر ثم يعود مع الغروب وعادوا جميعا خائبين إلا واحد منهم...
وسأل الوالي كل من وصلوا: لماذا لم تجمع ما
أمرتك به؟ فكان الرد الموحد: كلما وضعنا فأرا في الشوال تمكن من قرضه وتمزيقه
والهرب. حتى عاد الغائب يحمل على ظهره حمولته مكتظة حتى حافتها بالفئران وسأله
الوالي: ماذا فعلت؟ فأجاب ببساطة: أمسكت بالفار الأول وصرت ارج الشوال حتى داخ
تماما فأمسكت بالثاني واستكملت الرجرجة وهكذا حتى ملأته وكانت الفئران تظن ان كلا
منها هو المتسبب في دوخة الآخر فاشتبكت في شجار متبادل استمر حتى انتهيت من مهمتي.
وعندها رد صاحبنا: أصبت وأجدت.. فهكذا تحكم الشعوب!
وفي حالتنا أظن أن هناك إرادة أعتقد جازما أنها
إقليمية ودولية عرفت ان عرب الإقليم جميعا ومصر أيضا لا بد أن يتم التعامل معهم
بطريقة الشوال والفئران، ولذلك وبصدق شديد أقول: كان الله في عون من يقود البلاد
الآن وهو يحاول الخروج من مأزق التناحر والاختلاف!
على ذلك فالسؤال الغليظ هو: متى نتخلى عن تحويل
المحروسة الى شوال ضيق؟ وكيف نرفض أن نكون فئرانا داخت فاشتبكت وانهالت على بعضها
البعض عضا وتمزيقا وأصابها ما أصابها لأنها لا تعرف معنى التراكم في الخبرات ولا
التكامل في الأدوار، ولا الفرق بين اكتمال مقومات الانفجار وحدوثه وبين توظيف
الطاقة الناتجة عنه؟ إذ كان ما جرى في يناير انفجارا اكتملت مقوماته ولكن قفز من
وظف الطاقة الناتجة في اتجاه آخر تماما.
الفئران لا تتراكم خبراتها، وإن ثبت أنها تتعلم
من الارتباط الشرطي.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 يناير 2016
No comments:
Post a Comment