لأن التكرار يعلّم – لا
مؤاخذة – الشطار، فإنني أكرر أن مناقشة مبدأ التعديل في أي نص وضعي، أمر يختلف عن
التطرق لمضمون التعديل ومداه.. وما زلت أؤكد أن الدستور كنص وضعي من صنع الإنسان
ليس كتابًا منزلًا لا يأتيه الباطل من أي اتجاه.. وما زلت ألاحظ أن معظم إن لم يكن
كل الذين قامت قيامتهم لمجرد طرح مسألة تعديل الدستور المصري، هم من الذين طالما
خاضوا الجدل، متمسكين بأن أي نص هو نص تاريخي، بما في ذلك الكتب المقدسة، وأنه لا
يجوز لعاقل – من وجهة نظرهم – أن يفكر في أن يبقى المجتمع أسيرًا لنص نزل أو صيغ
في ظروف معينة.. ومع هؤلاء المتعبدين في محاريب نص وضعي وضعته لجنة من البشر،
الذين يختلف على معظمهم، وجدنا للتعامل مع النص المنزل اتجاهات لا تنتقص من
قدسيته، ولكنها حاولت التعامل معه بمرونة، فمنها من قال بجواز صرف النص إلى غير
ظاهر معناه.. ومنها من ذهب إلى جواز تعطيله في ظروف معينة، مثلما فعل الخليفة عمر
مع نص حد السرقة في عام المجاعة "الرمادة"، ومثلما فعل الرسول صلى الله
عليه وآله، مع نص نصيب المؤلفة قلوبهم من الغنائم.. بل وذهب آخرون إلى أن هناك
نصوصًا تُعطل سريان أحكامها بحكم الزمن، مثل ما يتصل بالرقيق!، ثم عرفنا القاعدة
الأصولية القائلة: إنه حيثما تكون مصلحة الأمة فثم شرع الله، ثم إن هناك من يتعامل
مع الشأن الدستوري بالطريقة التي تحكيها حكاية الرجل الذي ذهب للمستشفى بزوجته
التي فاجأتها آلام المخاض وتعسرت الولادة، وبقي واقفًا ينتظر وقد أضناه القلق، ثم
وجد الطاقم الطبي يخرج من العمليات، وفوجئ برئيسه يقول له برصانة شديدة: مبروك..
نجحت العملية ومن أجل نجاحها ضحينا بالأم والجنين!
ولأن السياق يستدعي من
ذهن المرء ما يبيح القول بأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن الذين ينزلون نصًا وضعيًا
منزلة مقدسة تحرم التعامل معه وفق ما يحتاجه المجتمع ويكفرون من يرى أنه حيثما
تكون مصلحة الأمة فثمة النص الدستوري، ذكروني بالحوار الذي دار بين الفريسيين
اليهود وبين السيد المسيح له المجد، وورد في إنجيل متى الإصحاح الثاني عشر، وفيه
نقرأ: "في ذلك الوقت ذهب يسوع في السبت بين الزروع فجاع تلاميذه وابتدأوا
يقطفون سنابل ويأكلون. فالفريسيون لما نظروا قالوا له: هو ذا تلاميذك يفعلون ما لا
يحل فعله في السبت، فقال لهم: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه.. كيف
دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا الذين معه، بل للكهنة فقط،
أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء،
ولكن أقول لكم: إن ههنا أعظم من الهيكل، فلو علمتم ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة،
لما حكمتم على الأبرياء فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا.. ثم انصرف من هناك
وجاء إلى مجمعهم وإذا إنسان يده يابسة، فسألوه قائلين: هل يحل الإبراء في السبوت؟
لكي يشتكوا عليه، فقال لهم: أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في
السبت في حفرة أفما يمسكه ويقيمه، فالإنسان كم هو أفضل من الخروف.. إذن يحل فعل
الخير في السبوت.. ثم قال للإنسان: مد يدك. فمدها فعادت صحيحة كالأخرى".
انتهى الاقتباس من إنجيل متى، لأجد لسان حالي يقول: "إن ابن الإنسان هو رب
الدستور أيضًا، وأؤكد أنه حيثما تكون مصلحة الأمة فثمة النص الدستوري".
إننا في قلب ملحمة عمل
وطني مضنٍ على جميع المستويات في الداخل وفي الخارج، والإنجازات التي لا يختلف
عليها، وآخرها مؤتمر القمة العربية – الأوروبية كثيرة، والأخرى التي يختلف على
أولويتها موجودة، والثالثة التي يختلف على جدواها موجودة أيضًا، ولا أحد يُنكر أن
ثمة عوارًا يحيط بأساليب بعض الإعلاميين وبعض النواب إذ تبدو الفجاجة والسطحية في
أدائهم، ولكن ونحن في قلب تلك الملحمة، هناك من يريد لمن يعمل وينجز ويتصدى أن
يستمر في تحمل العبء وأداء الواجب لمدى محدد، يسمح للمهمة أن تتم على الوجه
الأكمل.. وإذا بالفريسيين مقدسي السبت الدستوري يتصايحون، لن يجوز استمرار العمل
ودوام الإنجاز وتعميق النجاح، لأن النص لا يسمح.
إن تساؤلًا يطرح نفسه
على المعنيين بالشأن العام، وهو لماذا لا نترك من يعمل وينجز ليستكمل عمله، ويتجه
كل منا للعمل والإنجاز في المجال الذي يعمل فيه ويتقنه، وإذا كان البعض قد ترك أي
عمل ونذر نفسه للتفرغ لمهمة التفتيش العمومي على سائر البلاد والعباد لمراقبة مدى
الالتزام بالنص، ثم إعلان الحرب والاستنجاد بوراء البحار، فإن هذا البعض مطالب
أيضًا بأن يضع لنفسه سقفًا لا يتجاوزه، وأن يخترع للبلاد صيغة تمكنها من محاسبة
هذا البعض، وتحول بينه وبين الاعتماد والاستقواء بالماورائيات؟!
إن من يكلف نفسه قراءة
الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية، منذ أن انتخب، سيعلم الجدول الموضوعي للمهام التي
أعلن الرجل أنه ملتزم بإنجازها، وفي مقدمتها إعادة بناء الدولة واستعادة هيبتها
داخليًا وخارجيًا، وتحقيق الانطلاق الاقتصادي والاجتماعي من أرضية صلبة قوية على
مستوى البنية الأساسية، وعلى مستوى المشاريع الاستراتيجية.. وأعتقد أن هناك في
أرجاء مصر من الإنجازات ما يؤكد أن الأمر لم يكن "طق حنك"، ولا بأسلوب
"وستعمل حكومتي"، ثم لا تعمل شيئًا، بل هو عمل مضنٍ وشاق على جميع
الجبهات.. وهناك الكثير الكثير مما يستوجب مزيدًا من العمل، وعندئذ سيعرف من لم
يعرف الإجابة عن لماذا من الوارد تعديل النص الدستوري.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 28 فبراير 2019.