كان ذلك منذ عشر سنوات
وبيني وبين نفسي في لحظة ما، ثم بعد ذلك أمام من تصادف وتجاذبنا الكلام حول
الرحلة، أقسمت أنني لن أذهب إلى هناك مرة أخرى، حتى لو أصبحت جنة الآخرة هناك، ومع
ذلك ورغمه فعندما تعلق الأمر بجنة من نوع آخر شديد الدنيوية، لم أتردد في السفر،
ولم يحل العمر الذي هو فوق السبعين بثلاث سنوات، ولا دمار الفقرات القطنية ومعها
العصعص، من ركوب الطائرة درجة سياحية على كراسي متعبة، والبقاء في الجو 12 ساعة في
الذهاب، ومثلها في الإياب، ناهيك عن الانتظار في المطارات لأكثر من خمس ساعات!
كنت قد دعيت عام 2010
لندوة في كلية اللاهوت بجامعة ييل بالقرب من نيويورك، وكنت بصحبة رائعة ضمت
الدكتور محسن يوسف، والدكتور إبراهيم أبو العيش، والدكتور علي السمان- رحمهما
الله- والأستاذ نبيل عبد الفتاح، والسيدة مها عبد الفتاح، وكان الموضوع عن العلاقات
بين العالم الإسلامي والغرب.. وبعد الندوة اتجهت لزيارة بعض الأهل والأصدقاء في
أوشن سايد بالقرب من سان دييجو، ومضت الأمور جميلة إلى أن جاء موعد العودة، وفي
مطار سان دييجو ولمجرد أن الباسبور مصري التقطت من بين مئات المتدفقين إلى مكان
جانبي في أرضيته رسم لقدمين، وقفت فوقه، وبدأ التفتيش وخلع الملابس قطعة قطعة، مع
رفع اليدين لأعلى، ثم تفتيش الحقائب والكتب والملفات صفحة صفحة بجهاز يدوي.. ولا
يجرؤ مخلوق أن يعترض، وبعدها أقسمت ذلك القسم، إلى أن وصل- منذ خمسة أشهر- الحفيد
"زين"، الذي يقيم مع والديه في مدينة صغيرة اسمها هوبكنز، بالقرب من
مينيا بوليس، عاصمة ولاية مينيسوتا ذات الألف بحيرة، والطقس الذي تنزل درجة حرارته
إلى ما دون الخامسة والأربعين تحت الصفر شتاء، ومن حظنا أن ذهبنا- منذ ثلاثة
أسابيع- لنجد درجة الحرارة فوق العشرين بقليل!، وبصرف النظر عن تكرار المحنة نسبيًا
في مطار الوصول، وهذا حديث آخر، إلا أن الطقس دفعني للتأمل بالطريقة الكامنة في
الجينات المصرية، التي عرفت منذ آلاف السنين أن غروب الشمس وشروقها وتجاور خضرة
الوادي مع صفرة الصحراء، يعنيان أن ثمة بعثًا بعد الموت، لأجد أن الموات الذي
يفرضه برد ما تحت تحت الصفر، وبعده تأتي الخضرة مونعة مزهرة هو ما قد يكون كامنًا
من وراء الإصرار على العمل والإنتاج والحركة والتعلم لدى الناس هناك، وربما كان
الفرق بين استجابتنا لتأمل الشروق والغروب والخضرة والصفرة، واستجابتهم لتأمل
الغيوم والثلوج والجليد والرياح والأعاصير، ومن بعدها الدفء والشمس والخضرة
والأزهار والثمار هو أننا ترجمنا تأملنا لمعابد وتماثيل وأهرامات تقاوم الفناء،
وتعبر عن استغراقنا في علاقتنا بالآخرة، فيما أنهم ترجموا تأملهم لعمل وإنتاج
وصراع مع الزمن، لأجل التقدم دون الانشغال المستغرق في الماضي، بما فيه أصل الحياة
والعلاقة مع الغيب!
قابلت أمريكيين أقحاح،
والتقيت أمريكيين حديثي الوفود، ومازالت أصولهم الإثنية والثقافية واضحة، والتقيت
أيضًا مصريين من المقيمين العاملين في أكثر من مجال، وكان القاسم المشترك هو
الانشغال بالحاضر والمستقبل، ولم أجد "صريخًا ابن يومين"، ولا عجوزًا
ابن مائة عام، ولا ما بينهما، وقد انشغل بالسؤال الذي طرحه بعض العباقرة هنا:
"ماذا لو"، لأنهم يدركون أن طرحه سيفتح صراعًا وهميًا لا نهائيًا.. إذ
لو تخيلنا أن السكان الأصليين الذين أسماهم الغزاة "الهنود الحمر"،
تساءلوا: "ماذا لو لم يكتشف أميرجو فيسبوتشي هذه الأرض، وماذا لو لم يتدفق
شذاذ الأفاق من المجرمين والعصاة، ومعهم المضطهدون دينيًا وعرقيًا إلى هنا، وماذا
لو كنا قاومنا وانتصرنا؟.. ولو تخيلنا أن أحفاد بعض الغزاة القادمين تساءلوا
بدورهم ماذا لو لم تقم الثورة الأمريكية، وماذا لو لم تنته الحرب الأهلية على
النحو الذي انتهت إليه، وماذا لو لم يتم تحرير العبيد ومنع التمييز؟.. ثم يمتد
الأمر إلى مئات أخرى ستجد كل منها عشرات التساؤلات بماذا لو؟!، ولعل الله رحمهم،
لأنه لا يوجد عندهم أو لم يرحمهم لأنه ليس لديهم قائمة الأسماء التي أشك أن تقبل
إدارة تحرير "المصري" بنشرها إذا كتبتها هنا!
هناك أيضًا عرفت ماذا
يعني التنافس، وماذا يعني السعي لتحقيق الهدف، وماذا تعني العمارة الذكية، وماذا
يعني اختفاء التعامل نقدًا في أكثر من مكان.. ولا أخفي أنني وأنا هناك لم أستطع
التخلص من متابعة طراطيش مستنقع "ماذا لو"، الذي سافرت وهو قائم يستقبل
مزيدًا من الغارقين فيه.. وللحديث بقية.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 11 سبتمبر 2019.
No comments:
Post a Comment