Thursday, 4 July 2019

أوجه للشبه بين الليلة والبارحة





في الستينيات كان جزء من اليسار المصري يرى في تجربة جمال عبد الناصر، أو في تلك المرحلة من مراحل ثورة يوليو، أنها تطبيق لنظرية رأسمالية الدولة الاحتكارية، وأنها تكريس لسمات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، التي تضع قدمًا في طريق التقدم وأخرى في التخلف، مع الميل للأخير أكثر من الأول، ومن ثم فلا علاقة لها بالاشتراطية ولا بالعدل الاجتماعي، فيما كانت الكتلة الرئيسية في ذلك اليسار منحازة للثورة ولتجربة عبد الناصر، وكان في المقدمة منها الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، وعلى الجانب الآخر كانت جيوب أو أوكار كبار الملاك الزراعيين وكبار الماليين والعقاريين، وما تبقى من فئات صنفت أنها رأسمالية قبل 1952، ومعهم من يحسبون أنفسهم على الفكر الليبرالي، يرون في التجربة استمرارًا للانقلاب العسكري الشيوعي والفاشي، وأنها عميلة للاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، وأنها معادية للإيمان القويم الذي يقضي بأن الله خلق البشر متفاوتين في الأرزاق والدرجات، ليصبح الغنى والفقر عند هؤلاء أمرًا متصلًا بالإرادة الإلهية، ومن يحاول أن يتدخل أو حتى يتكلم عن أنهما ليس إرثًا ولا قدرًا فهو كافر ملحد.. وفيما كان الاستقطاب يشتد، كانت التجربة تشق طريقها، رغم القوى الإقليمية التي اتخذت من الإسلام مطية لتحقيق أغراضها ومباركة تحالفاتها لضرب ناصر وتقويض تجربته، إضافة إلى الموقف التقليدي من الغرب والأمريكان والدولة الصهيونية!

ولا أبالغ إذا قلت إنه رغم تغير الظروف واختلاف الأوضاع منذ 2013 إلى الآن عما كان سائدًا في الستينيات، ورغم أنني لست من أنصار المطابقة بين تجربة ناصر وتجربة السيسي، فلكل فكره ولكل رؤيته ولكل بصمته، وطريقته في التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، إلا أنني أجد تشابهًا بين المواقف من تجربة يونيو وقيادة السيسي وبين ما كان تجاه تجربة يوليو وقيادة عبد الناصر!

فمازال جزء من المحسوبين على اليسار بشقيه الماركسي والناصري، يرون في تجربة يونيو وقيادة السيسي ابتعادًا عن الديمقراطية وعن العدل الاجتماعي، إلى آخر الأسطوانة التي لا يستنكف بعض مردديها من إعلان هدفهم بإسقاط سلطة الدولة، وضرب التماسك الاجتماعي، ولا من إعلان تصنيف النظام بأنه عميل للصهاينة وللأمريكان، هكذا دفعة واحدة.. وعلى الجانب الآخر فإن رجال أعمال وأصحاب أموال ومصالح، ممن يسمون تجاوزًا بالرأسماليين، يرددون ما سبق ترديده في الستينيات من أن التجربة الحالية هي "رأسمالية دولة احتكارية"، وأن النظام يعيد إنتاج ما أنتج في الستينيات، من تدخل للدولة في السوق وفي الإنتاج.. يعني قطاع عام مرة ثانية، ولكن في ثياب أخرى.. فإذا أضفنا حجم التحديات الإقليمية والدولية، التي لا تترك أطرافها فرصة إلا وهاجموا نظام يونيو وقائده، ووصل الأمر إلى إقامة تحالفات إقليمية أبرزها تركيا وقطر لحصار مصر وتقويض جهودها في البناء والتنمية، عبر تدعيم الإرهاب، والتدخل في المحيط المباشر للأمن المصري في ليبيا والسودان والبحر الأحمر، وفي سوريا وفي فلسطين، من خلال حماس، ويضاف لذلك تحالف آخر له سمات خاصة، تمثله منظمات حقوقية دولية وإقليمية وداخلية تدعي لنفسها الوصاية على حقوق الإنسان وعلى الديمقراطية، ورغم ذلك كله فإن التجربة في مصر، الآن، تمضي منطلقة بجسارة في طريق البناء والتنمية والتخلص من المشاكل الموروثة عبر حقب طويلة، إضافة لسياسة خارجية بالغة القوة والمرونة والصلابة في آنٍ واحد، ليصبح السؤال عندئذ هل ستكتفي الأطراف التي تدير التحديات الحالية ضد مصر بما تفعل، وتظل تشاهد تجربة يونيو وقائدها ماضين في طريقهم من نجاح لنجاح، أم أن التخطيط المضاد يمكن أن ينتقل لمرحلة أعلى تماثل ما كان يخطط له في النصف الثاني من الستينيات، تماثلًا مختلفًا في الأدوات والمراحل والأساليب، ولكنه يسعى للهدف نفسه هو قصم ظهر مصر، والسعي لإنهاء تجربتها المعاصرة، مثلما تم إنهاء تجربتي محمد علي وعبد الناصر؟!

إنه سؤال يجب أن يشغل بالنا تمامًا، وأن نعمل على الإجابة عنه بدراسة السيناريوهات المحتملة لتلك التحديات في المرحلة المقبلة، وكيف نتلافى الوقوع مرة ثانية في الفخ؟!

أعلم أن أولئك اليساريين والرأسماليين، الذين أشرت بإيجاز لموقفهم من يونيو والسيسي سيردون من فورهم وفق ما يتفق مع هواهم، أي سيصيحون "الديمقراطية ومزيد من جذرية التحول الاجتماعي"، وأيضًا "إنهاء دور الدولة تمامًا، وترك الحبل على الغارب للرأسماليين، كي يستولوا تمامًا على مقدرات الوطن، وتمتلئ خزائنهم بالمزيد"!

وما أسعى لعلمه على أسس مدروسة، هو كيف نواجه هذا التحالف الثلاثي المُعادي بأطرافه الداخلية والإقليمية والدولية، وفي الوقت نفسه نحمي تجربتنا ونستمر في الانطلاق؟!

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 4 يوليو 2019.

No comments:

Post a Comment