Showing posts with label مصر. Show all posts
Showing posts with label مصر. Show all posts

Wednesday, 25 May 2016

محاولة للهروب




في فرع رشيد من نهر النيل، حيث يتسع المجرى جدا، شفت الدوامة عدة مرات ولا أدري لماذا يسميها الناس نواحينا هناك، أي في المنطقة بين كفر الزيات وبين دسوق "الشيميا" إذ يتحاذرون "خللي بالك من الشيميا أحسن تبلعك" وكان ذلك قبل بناء السد العالي عندما تهل مقدمات الفيضان فيتحول لون الماء من العكارة الرمادية الراكدة إلى الفوران المائل للاحمرار، ثم تتكثف الحمرة لتصير أقرب إلى البني .. وكانت أكبر دوامة رأيتها تدور في المسافة القريبة من عبور المراكب الشراعية والمعديات التي تنقل الناس والأمتعة والدواب من البر الشرقي عند محلة دياي إلى البر الغربي بالقرب من شبراخيت!

شاهدت الدوامة وقد أسرت جاموسة ضخمة وأخذت تدور بها، والدابة تحاول الخلاص بلا فائدة، وصاحبها الذي كان فتى يافعا وخلع عنها "الرواسة" – الحبل الذي يربط حول رأسها ويعقدونه حول إحدى أذنيها ليسحبوها منه – ليتركها تستحم وتعوم يصرخ "روحوا لي يا خلق هوه"!

وكانت الدوامات تتراوح من الحجم الذي يبتلع مركبا نزولا إلى أحجام أقرب إلى حجم قبضة اليد، وكل دوامة تجذب العفش الطافي على وجه الماء فتسمع الأذن حفيف احتكاكه، وربما تجذب جثمانا لغريق ترمم فطفا والناس أولاد الحلال ينادون الجثمان: "حوِّد البر يا طالب الدفنة" أي حول اتجاهك إلى اليابسة إذا كنت تريد أن تدفن!

وكانوا يحذروننا في ذلك الموسم من الاقتراب من المياه ولو في الترع الصغيرة، خاصة إذا كان إغراء خلع الملابس بلبوص هو شرش بلح أحمر طاف على وجه الماء أو ثمرات جميز، وكان التحذير مخيفا، لأن عفاريت الجن تعمل من نفسها بلحا أو جميزا – ثمر الموسم – لتخطف العيال خاصة الصبيان، بحكم أنها الأجرأ على خلع الهدوم!

وبعد هذا العمر الذي استطال ليتجاوز السبعين بعدة شهور مازلت أشاهد الدوامة بأحجامها المتفاوتة، ومازلت أرى البلح الأحمر والجميز فأخلع وأنزل، أو أتردد خوفا من المصير الذي بلا قرار، ومازال الفيضان الذي من وراء دوامات الوقت الراهن متدفقا بحمرته القانية التي ليست ذرات صخور بركانية قادمة من جبال الحبشة لتتراكم تربة خصبة عمقها حوالي ثلاثين مترا في الدلتا، وإنما حمرة فيضاننا الآن من دماء الأبناء في الجيش والشرطة وعلى المزلقانات وأسفلت الطرق وأيضا عمق البحار!

دوامات تحاول ألا تفلتنا من الدوران فيها دون أمل في قاع نرتطم به فنرتد إلى أعلى ولا أمل في حبل إنقاذ نمسك به فنصل لبر الأمان!

دوامات بعضها ميكروسكوبي يجد المرء نفسه وقد وقع فيها ولا يقدر إلا على الدوران لأنه لا يملك التمرد عليه ولا الخروج منه، وإذا أردت أن أضرب مثلا لذلك فإن الأمثلة بغير حصر، يمكن للراغب في تبينها أن يتابع ما يكتب وينشر في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي..

ولقد يتحول الأمر أحيانا إلى ثقب أسود يشفط كل ما يقترب منه من أجرام قد تصل إلى حجم المجرات، مثلما هو حادث الآن في علاقتنا الرأسية والأفقية اجتماعيا وسياسيا على مستوى الداخل، وفي علاقتنا الدولية بالإقليم وفي العالم، إذ لا شيء يجمع الشتات المصري إلا أمر واحد هو أن الجميع "مشفوط" في ثقب العراك الأسود حول كل أمر، ابتداء من البديهيات وما قد يفترض أنه ثوابت ومسلمات إلى ما هو متغير في العالم، دون أن تجد أي توجه نحو قاسم مشترك أعظم أو نحو الحل الوسط التاريخي، وفي هذا يحضرني دوما مثال نقيض هو الدولة العبرية التي يتعادى فيها ويتخاصم لدرجة الكراهية بعض أطياف التكوين السياسي، إلا أن الجميع يجمعهم أمر واحد رئيسي هو الإجماع على قوة الدولة وتماسكها وتفوقها على كل محيطها الإقليمي بالعلم والتطبيق العلمي وبالسلاح العسكري والأسلحة الأخرى الاقتصادية والإعلامية وهلم جرا!

وأحيانا يحاول المرء مقاومة الدوران في دوامات اللحظة المعاصرة، فيتشعبط في "قشاية" الاتجاه لذكريات طفولته وصباه وشبابه المبكر، أو لأحوال قريته ومدينته في زمان غابر، أو للكلام في مجالات أكثر رحابة تتصل بالتكوين الوجداني المصري، وفي هذا السياق فقد توقفت أمام أحد أعمدة السيد نيوتن، وهو يحكي عن تجربته مع محصول العسل الذي جمعه النحل في حقول الأسرة من البرتقال، وكأن نيوتن أراد كما فهمت أن يخرج عامداً من دوامة الانغماس في السياسة اليومية بمعناها الضيق، لأن السياسة مثل الثقافة لها مجالان أحدهما محدود ضيق والآخر رحب واسع!

وطالما أن الأمر في هذه السطور أمر دوران في دوامات وثقوب سوداء، فربما كان من الوارد أن نتطرق إلى دوران من نوع آخر هو دوران الأفلاك.. الكواكب من حول النجوم حيث تتحكم المسافة بين الكوكب والنجم في درجة الجاذبية ودرجة الحرارة ومن ثم إمكانات وجود الحياة واستمرارها، ووفق قوانين حركة صارمة يؤدي خللها إلى كوارث كونية، وقد انعكس هذا النوع من أنواع الدوران على البشر أيضا، وخاصة في بعض طقوسهم التعبدية، إذ يذهب البعض إلى أن الدوران متصل من مستوى الإلكترونات إلى المجموعات الفلكية، ولذا كان الدوران من حول الكعبة أمرا لا ينفصل عن المنظومة الكونية الممتدة من المايكرو إلى الماكرو.. ترى هل أفلحت تلك السطور في التخلص من أسر دوامات فيضان العراك السياسي الذي أضحى مبتذلا مملا، أم أنها محاولة هروب فاشلة؟!!
                               
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 مايو 2016.

Wednesday, 6 April 2016

هروب.. وهروب!!


 
صورة من شوارع القاهرة

كان "نقب" الجدار هو الطريقة الشائعة لسرقة دور الفلاحين في زمان مضي.. تستخدمه العصابات "المناسر"، مستغلة أن معظم الجدران إن لم يكن كلها مبنية من مداميك الطوب اللبن أو النيئ أو الأخضر والملاط "المونة" بينها من الطين هي الأخرى، وعادة ما كانت المسافة من سطح الأرض إلى عشرة مداميك في الجدار تتعرض لنشع المياه الجوفية، الذي يساعد على تفتيت الطوب.. ولذا كان سهلا أن يعمد الحرامي إلى خلع طوب المداميك بأية آلة صلبة ولا يقاومه شيء حتى عرض الجدار، الذي كان أقصاه "طوبتين ونصف"، وعندما يتم "نقب الجدار وتتسع الفتحة يفلت الحرامي للداخل عارفا طريقه إلى زريبة البهائم أو إلى وسط الدار، حيث تخزن حلل الطهو النحاسية، فإذا لم يجد شيئا عمد إلى الطيور مركزا على البط إذا وجد، لأنه أغلى ثمنا وأكثر لحما!!.. ولم يكن الحرامية يستطيعون الاتجاه من المساحة المنقوبة إلى الزريبة ووسط الدار إلا إذا كانوا قد جمعوا المعلومات بواسطة من يسميهم الفلاحون "الدسيسة"، أي الجاسوس المندس، وهو إما أن يكون بائعا جائلا أو مشتريا جائلا.. الأول يبيع السكسونيا وقطع القماش أو الصابون والفلايات والعطور الرخيصة، والثاني يشتري البيض ورسمال الحمام "زبل"، والنحاس القديم، وربما الذهب والفضة الكسر!! وإما أن يكون الدسيسة هو السقا الذي يحمل إذنا دائما بالدخول إلى الأزيار "جمع زير"، المنصوبة عادة خلف باب الدار، أو هو في أحيان نادرة الشحات "المتسول"، الذي يقف على الأبواب وقتا طويلا وفي أحيان أكثر ندرة قارئ أو قارئة "الراتب"، أي السورة القرآنية التي تتلى كل صباح بعد أن تفرش حصيرة الصلاة فوق المصطبة القريبة بدورها من وسط الدار.. والزريبة!

عندي إحساس أحاول الهروب منه بشدة بأن مصر يتوالى نقب جدرانها من مناسر تتعدد أصولها وتتنوع تخصصاتها مثلما هي مناسر الإجرام التقليدية ـ "جمع منسر، أي عش النسر وهو اسم كان يطلق على عصابات السرقة والنهب والخطف، ولكل منسر شيخ منسر مرهوب الجانب حتى من الحكومة آنذاك" ـ والمصيبة أن جدران المحروسة تعرضت للتآكل والذوبان بأبشع مما كانت تتعرض له جدران الطوب النيئ إياه!.. وما تتعرض له المحروسة لم يتم ولن يستكمل إلا بوجود "الدسيسة"، أولئك الذين لا يتورعون الآن عن الظهور علنا وأداء مهمتهم جهارا نهارا وعلى عينك يا تاجر، وليس بالاستتار والتسلل كما كان حال الأسلاف في جرائم سرقة البهايم والنحاس والفراخ!!

لن أستكمل لأنني كما أسلفت أحاول الهروب من هذا الإحساس الذي له براهين عملية أسعى لتجميعها وقراءتها وفهمها ونقدها، حتى إذا واتتني شجاعة الكتابة عنها كنت قادرا على تحمل هجمات المناسر وطعنات الدسائس، وهنا أتجه لصفحة أخرى من صفحات الأعماق الاجتماعية، التي أزعم معايشتها عن قرب، إذ كنت حاضرا تلك اللحظات المفرطة في الكوميديا والجدية في آن واحد، عندما تأخر "علي أبو مصماص" في الحمام الذي كان يقع على يسار غرفة الجلوس، وله باب خشبي له شراعة زجاجية ونافذة تطل من الدور الرابع على ورش إحدى الشركات الهندسية المشهورة، وعلى النافذة أربعة أسياخ حديدية تحول دون أي عضو منسر من الدخول إذا تسلق مواسير المجاري الواصلة من الأرض حتى آخر دور ثم السطوح!

نقرات خفيفة متباعدة وعلي يتنحنح دليل على أنه سمع، ثم تقاربت النقرات ثم انقلبت إلى خبط ورزع بعد أن مضى عليه داخل المرحاض حوالي ساعة، ثم كتف قوية فسخت الكالون والشنكل معا وإذا بعلي أبو مصماص واقف على قاعدة المرحاض المرتفعة "الإفرنجي" يحاول ثني حديد الشباك للقفز منه، وبعد جدل تم إخراجه ليحكي أنه احتار كيف يستخدمه، فجلس القرفصاء أعلاه وحاول الاستنجاء فبدأ يفتح كل ما يصادفه من صنابير، ثم كان أن حرك يد السيفون وإذا بطوفان انخلع له قلبه، فظن أن كارثة حدثت فقرر أن يقفز بلا عودة!

وكانت الجدية أولا ثم الضحك ثم الاستغراق في الحكاوي الطريفة التي عاشها، ومنها أن الناس في بعض أجزاء سيناء كانوا يشربون من بئر ماء تسمى "بئر مبعوق"، وهنا تنطق القاف جيما قاهرية أو "جافا" فارسية ومن حوله يتجمعون لمناقشة أحوالهم وللبيع والشراء وللتقاضي، وذات مرة اتهم أحد كبار قضاة "بير مبعوج" مع صديق له من كبار القوم أيضا بجريمة زراعة نباتات غير مشروعة، وتم القبض على حضرة القاضي، فيما هرب صديقه إلى قمم الجبال "صعانين"، وتم ترحيل الأول إلى معتقل في الصحراء الغربية، وذات مرة جلس يندب حظه بشعر بدوي: "من بعد ما كنت في دار الإمارة.. أنا الحين داخل السجن مسكين.. عتبي على اللي يملكون الوزارة.. لا عتبي على اللي ساكنين الصعانين"، في غمز مباشر لصديقه ساكن صعانين "قمم" الجبال هربا من مصيره.. ويرد الصديق الهارب: "الحاج أكل البيض كبر جعابه "مؤخرته".. يقول الناس ما عندهم "ذوق" ثم شطر لا أذكره.. ويستكمل: ".. ما هي طلايب ناس ع بير مبعوق.. دا اللي شرد ما يعيبه شراده.. خير من اللي في المرس مثل مرزوق"، ومعنى الكلام أن صاحب السجن ثقلت مؤخرته وزاد وزنه من كثرة أكل البيض بالسجن، وأن الهارب لا يعيبه هروبه وحريته لأنه أفضل من المربوط في "المرس" ـ أي الحبل ـ مثل الكلب.. لأنهم يسمون الكلب مرزوق، وهو اسم واضح الدلالة!

ومضى علي أبو مصماص صديقي عليه رحمة الله ابن القبيلة السيناوية الوطنية يحكي كيف هرب الذي في المعتقل بطريقة عبقرية، كان السبب من ورائها معايرة ساكن الصعانين له بأنه مربوط في حبال السجن مثل الكلب.
وربما جاءت فرصة لاستكمال قصة الهروب.. هروب صاحبنا وهروبي معا!


نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 أبريل 2016

Thursday, 26 March 2015

أكثر من «ليت»





كان بمنزلة جد أبى.. لحقته وهو مصاب بشلل نصفى أقعده، وكانوا ينادونه «على أبوصدر»، لأن صدره كان عريضًا بشكل لافت، ولتمييزه عن أكثر من «على» يحملون لقب العائلة، وكانوا يخرجونه من داره صباحًا ليتشمس فى الشتاء أو يتنسم الهواء البحرى فى الصيف، وكنت أحب الاستماع لحكاويه التى منها أنه باع محصول القطن ذات سنة وكان وفيرًا من نوع الكرنك، وأخذ فلوس القطن وارتدى الجلابية البلدى الصوف ذات القياطين وتلفح بالعباءة الجوخ، وخرج من البلد ومعه صديقه عثمان عمارة بفلوس قطنه هو الآخر، ومن البلد اتجها لكفر الزيات، ومنها بالمركب إلى روض الفرج حيث «المرسح» - أى المسرح - وحيث تغنى سلطانة الطرب منيرة المهدية.. وقال لى إنهما اتجها للمرسح وعلى رأسيهما اللبدة الوبر الطويلة، وجلسا يستمعان ولما استبد الوجد والانبهار بصديقه عثمان وقف الأخير وخلع اللبدة وعبأها بفلوس القطن فئة المائة جنيه أم مئذنة وبأقصى قوته وعلى آخر ذراعه قذف باللبدة وما فيها صائحا: «الله يا سلطانة.. أنا أبوالعصاميم شيخ رجالة الغربية والفؤادية»، ووقعت اللبدة تحت أقدام الست منيرة، التى بدت وكأنها لم تشعر بما جرى واستمرت فى الطرب، بينما ضجت الصالة بصوت بذيء خرج من أفواه المستمعين تعليقًا على هتاف أبوالعصاميم!

ثم يستطرد سيدى على: «وأيمانات المسلمين يا ابن بنتى كانت أمى بنت شقيقه وهو عم جدى لأبى أخرجوا صوت الريح من أفواههم وكأنهم كانوا متفقين مع بعض على عثمان.. ومن فورنا انصرفنا من المرسح متمنين ألا يرانا أحد».. كان يحكى بالعامية طبعًا.. ومنذ تلك الأيام والعبد لله يصادف كثيرًا من أمثال عمنا «أبوالعصاميم»، لأن عاميتنا تنطق الثاء صادا فى كثير من الأحيان فيصبح عثمان.. عصمان!

صادفت فى المرحلة الطلابية ومرحلة السجن ومراحل العمل العام من يعطى لنفسه أهمية يراها لذاته، وربما يخلع البعض على البعض الآخر ألقابًا يوزعونها بالتبادل، فهذا ينادى «يا ريس»، وذاك ينادى «يا زعيم» وذاك يروج له أنه «المناضل» وغيره أنه «المفكر والأستاذ» وهلم جرا، لتبحث عن شخص عادى فلا تجد لأنهم جميعًا أبوالعصاميم شيخ رجالة الغربية والفؤادية، وربما عموم القطر!

وآخر الصيحات فى هذا الاتجاه هى من يستلب لنفسه حقوقًا على المشاع.. فهو المرشح الرئاسى الأحق تاريخيًا وسياسيًا ونضاليًا، ولا عبرة عنده ولا عند الذين يدورون فى فلكه بشيء اسمه الصناديق ولا إرادة الناس ولا انقضاء الأدوار بدوران الزمان ولا بالمصداقية.. يعنى «هو كده».. وهو المتحدث الكونى باسم الشباب رغم أنه على مشارف العقد السابع، إن لم يكن بدأه فعلًا.. وتراه وقد تصدرت سحنته صدر صحيفة ما، تهالك مالكها تقلبًا بين الانتماءات السياسية، ولم يكتب له أى نجاح ولو فى نادٍ رياضي، وتقرأ أن المتشبب يوجه رئيس الدولة بأنه لا سبيل إلا المصالحة، فتظن أنه ما زال متوقفًا عند مرحلة سابقة هى مرحلة المصالحة مع الجماعة الإرهابية «الإخوان»، إذ بدأ بالاعتذار نيابة عن جمال عبدالناصر وتياره للإخوان عما يقولون إنه جرى لهم ظلمًا وعدوانًا، فيما الحقيقة الثابتة الناصعة الواضحة أنهم أرادوا التعشى بناصر وثورة يوليو فكان أن تغدى بهم، ثم توالت الاقترابات مع الإرهابيين وتعانقت الأيادى، إلى أن حدث التوسل إليهم ليسمحوا لبعض أنصاره بدخول البرلمان، حتى وإن كان المسموح به فتاتًا لا يليق لا بالزعامة ولا بالرئاسة ولا بالنضال ولا بالأستاذية.. غير أنك تكتشف أن دعوة المصالحة هذه المرة قد انتقلت من الاتجاه للإخوان الإرهابيين إلى التحدث باسم الشباب، يعنى أن هناك خصومة قائمة بين النظام الحالى رئيسًا وحكومة واتجاهًا وبين الشباب.. فإذا أردت أن تسأل من هم الشباب تحديدا.. وهل يوجد تفويض منهم وهل هو حزب الشباب أم تيار الشباب؟! لا تجد إجابة، يعنى «هو.. كده» أيضا، وعلى المتشكك أن يذهب ليسأل الشباب مثلما سأل السائل أحدهم: هل تستطيع أن تحصى النجوم فى السماء التى فوقنا؟ ورد ذلك «الأحدهم» فورا: «إنها عشرميت مليون».. وإذا لم تصدقنى اصعد وقم بتعدادها!»

والمصالحة عند القطاعات الواسعة من المجتمع من مختلف الأعمار - بمن فى ذلك الشريحة من قبيل العشرين سنة إلى قبيل الخمسين سنة، يعنى الشباب تقريبا- تعنى توفير حياة كريمة تكفل التعليم المحترم والصحة والسكن والعمل والخبرة.. يعنى مشاريع عملاقة وكبيرة ومتوسطة وصغيرة، يعنى ما يتم فى قناة السويس وشرق التفريعة وما سيتم وفق أجندة التنمية التى بدأت بالمؤتمر الاقتصادي، وبالتالى لن يكون هناك وقت فراغ للدوشة فى الشوارع والنواصى وغيره من مطالب الفئة «العصاميمية!»

إننى أعلم يقينا أن حقوق المواطنة الكاملة التى كفلها الدستور ونظمها القانون يجب ألا تكون مجالا للمطالبة ولا للمزايدة، وأنه على الدولة والنظام كفالتها والمسئولية عنها حتى يمضى البلد فى طريق تنميته وتقدمه، محصنًا بتلك الحقوق مفعلا كل الواجبات، ومع ذلك أعلم أيضا أن هناك من سيصرخ: «اِلحق.. هؤلاء هم عبيد السلطة وخدم البيادة، الذين تمكنت العبودية من عقولهم ووجدانهم، ويبحثون عن المكاسب والامتيازات ويؤثرون السلامة الشخصية على حساب سلامة الوطن وكرامته».

ومع ذلك، ولأن الصدفة وحدها شاءت أن يقترب كاتب هذه السطور لحقب ممتدة من تلك العينة.. عينة «أبوالعصاميم».. بل والأنكى أننى كدت لفترة أن أكون واحدًا من تلك العينة، ولبست السلطانية بالفعل، ولكن الكرم الإلهى ورضا الوالدين ساعدانى على أن أخلع السلطانية منذ زمن طويل، ولم يسلم جلدى من خمشات ضارية، ليس هذا مجال تفصيلها!

فليتركوا الشباب يتحدث عن نفسه، وليساعدوه على أن يتوجه إلى مشروعات البناء فى القناة من بورسعيد للسويس وفى البحر الأحمر.. أو يناشدوه أن يتجه للمساهمة فى مواجهة مخاطر الطبيعة التى تهجم على المحروسة الآن من البحر ومن الصحراء، وليت المصالحة تتم مع الوطن.. أرضه ونهره وبحره وريفه وباديته وحضره.. وليت أى «عصمان» من «العصاميم» يظهر نصف عارٍ وبيده مغزله ومن ورائه عنزته.. مثل غاندى.. ليعلن أنها ساعة للعمل والعرق وليست دهرًا للزعيق والمزايدة واستلاب الأدوار.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 مارس 2015