Wednesday, 20 February 2019

من السوفالدي.. للدستور!


في "الفيس" ينشر بعض السيدات والسادة الذين يتابعون ما يكتب هنا وأضعه على صحفتي الإلكترونية؛ ردودًا وتعليقات وآراء تتفق وتختلف.. تنتقد وأحيانًا تهاجم وتسخر، ولا أنكر أنني أوصد الباب في وجه من يتجاوز، خاصة إذا أخل بالمتعارف عليه من آداب الحوار مع شخص آخر أبدى رأيًا أو أضاف تعليقًا.. ونادرًا ما أنشر ذلك الذي أتلقاه إلكترونيا في هذه المساحة الورقية، غير أنني أستأذن في نشر بعض مما تلقيته سواء بوجه عام، أو ارتبط بالمقال الذي نشر الأسبوع الفائت بعنوان "دستور يا أسيادنا".

من الأستاذ الدكتور هاني شعيب أستاذ واستشاري الطب النفسي في المملكة المتحدة "بريطانيا"، تلقيت مع آخرين نصًا أراه مهمًا في ظروفنا الراهنة، ولن أستطرد في الحديث عنه لأنه من الوضوح بدرجة تغني عن التعليق عليه أو تقديمه، وهذا هو النص: "صديقي طبيب استشاري خدم هيئة الصحة البريطانية NHS لأكثر من أربعين عامًا.. تقاعد مؤخرًا والتقينا في سهرة عائلية، فحكى وأثار الشجون، وقال: في عام 2001 اكتشفت أنني مصاب بفيروس سي.. ونصحني الأطباء بأن حالتي لا تستدعي علاجًا، وأوصوا بالمتابعة، وكنت لا أشعر بأي أعراض وتسير حياتي سيرًا معتادًا، وأمارس عملي الطبي بالقدرة والكفاء نفسيهما، وفي آخر فحص لوظائف الكبد تبين أن حالتي قد اقتربت من مرحلة الحرج، لكن لم يكن هناك بعد مؤشرات على مرحلة الفشل الكبدي، وطلبت رأيًا من استشاري في مركز الكبد بمستشفى كنجز كولدج بلندن، فقال إن حالتي قد تستفيد من العلاج النشط بعقار السوفالدي، لكنه لا يظن أن حالتي تنطبق عليها القواعد المطبقة لصرف العلاج، طبقًا لبروتوكول هيئة الصحة البريطانية.

واستطرد الخبير أن كورس العلاج بعقار السوفالدي يكلف هيئة الصحة البريطانية 83000 ثلاثة وثمانين ألف جنيه استرليني للمريض الواحد، ولهذا فإن العلاج مقتصر على 10% عشرة بالمائة من مرضى فيروس سي، الذين تسوء حالاتهم لدرجة بدايات الفشل الكبدي، وهؤلاء فقط الذين يحق لهم العلاج المجاني.." ورد الطبيب المصري المريض على الخبير البريطاني: "ما تقوله لا يصدق، فأنا مواطن بريطاني أدفع ضرائبي بالكامل، وطبيب أفنيت من عمري المهني أربعين عاما في خدمة هيئة الصحة البريطانية، وبعد ذلك ليس من حقي الآن أن أعالج من مرض خطير، وأن عليّ الانتظار حتى تتدهور حالتي إلى بدايات الفشل الكبدي.. سأكتب للصحافة البريطانية عن هذه الفضيحة"، ثم صمت الخبير وقال: "من فضلك انتظر ودعني أعرض الأمر على المسؤولين. وبعد أسبوعين، تلقى الطبيب المريض إخطارا بالحضور للعلاج بعقار السوفالدي. وخضعت للاختبارات المعملية عدة أشهر واستمر العلاج لعام كامل، بعدها أظهرت الفحوصات أنني شفيت من فيروس سي..".

كان ذلك في عام 2018، ودمعت أعين الطبيب والحاضرين لأنه الطبيب المصري حامل الجنسية البريطانية أضاف أنه زار عائلته في السنبلاوين وعرف أن عددًا منهم تلقى العلاج بالسوفالدي، وأنهم شفوا من مرضهم، وأن العلاج صرف لهم مجانًا.. وعندها تساءل الرجل: هل أدرك أهل بلدي وكل المصريين معنى وقيمة ما حدث لهم وهل يعلمون أن تكلفة العلاج في بريطانيا للفرد الواحد ثلاثة وثمانين ألف جنيه إسترليني، وأن مصر عالجت حوالي مليوني "2 مليون" مواطن مجانًا، أي 2 مليون مواطن × 2 مليون جنيه = أربعة آلاف مليار جنيه مصري، حسب قيمة الجنيه الإسترليني بالعملة المصرية".

ويختم الدكتور هاني شعيب نصه بأنه صديقه استطرد قائلا: "في رحلة العودة من مصر لبريطانيا نظرت من نافذة الطائرة، وبدت القاهرة مغلفة ببخار الماء المختلط بالأتربة والرمال، وبدا النيل كسوارٍ فضي، ولاحت الأهرامات شامخة متحدية، فدمعت عيناي وهزتني رعشة ودق قلبي: تحيا مصر". انتهى ولا تعليق من جانبي ولا مجال لمناقشة الذين ينكرون ضوء الشمس من رمد.

وعلى مقال "دستور يا أسيادنا" المنشور هنا الأسبوع الفائت، تلقيت تسعة عشر تعليقا كان من أبرزها- بحكم الإضافة أو اختلاف الرؤية- ثلاثة تعليقات، وليس ذلك مفاضلة بين السادة الذين تفضلوا بالقراءة والتعقيب، من السادة الأفاضل الأستاذ الزميل نصر القفاص، والأستاذ الكبير الفنان المبدع المخرج محمد فاضل، ومن حكيم الأدباء وأديب الحكماء الدكتور شارل مجلي أستاذ طب القلب..

كتب الأستاذ الزميل نصر القفاص: "يا مولانا.. مع إني مستمتع بتجويد الصبر والصمت والملل.. لكن سامحكم الله على تحريضي ودفعي للخروج من صومعتي.. وأريد أن أقول لك إن المرض قديم.. وفقط تتجدد آلامه، ولعلك تذكر أن الوفد والزعيم سعد زغلول رفضوا دستور 1923 وأطلق سعد باشا على اللجنة التي عكفت على بنائه وصياغته "لجنة الأشقياء"، بل ذهب إلى وصفهم بأنهم برادع الإنجليز، ثم حصد الأغلبية وحكم بموجب هذا الدستور، وجاء محمد محمود الذي شارك في وضع الدستور وعطله لمجرد أنه أصبح رئيسًا للوزراء، وبعدها تحالف النحاس ومحمد محمود ضد دستور 1930 واستمروا يناضلون لعودة دستور 1923، وفي ظله الظليل قبل النحاس الوزارة، بعد أن داس الإنجليز على الدستور وكرامة الوطن والملك بالدبابات يوم 4 فبراير 1942، وفي ظل الدستور كان العبث بالبرلمانات والحكومات، وكان المهم أن يتناوب حماة الدستور على الحكم وينعمون بالثروة والنفوذ وذلك باسم الدستور، ولو أن الرئيس الحالي اتبع هذا المنهج لالتفوا من حوله دفاعًا عن أهمية وضرورة تعديل الدستور.. وتقبل عظيم تقديري على إبداع قلمك وجرأتك المعهودة وفكرك المستنير".. هذا ما تلقيته من العزيز الزميل الأستاذ نصر القفاص، والحقيقة عندي أنه كما نقول بالعامية "جاب التايهة" فكل التحية والشكر له.. أما بقية التعليقات فسوف أفرد لها المساحة في مرات مقبلة لعل وعسى أن يكون ذلك بداية الحوار العقلاني الواعي حول مسألة تعديل الدستور.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 20 فبراير 2019.

Tuesday, 19 February 2019

عن آداب الاشتباك





فاصل ثم أواصل.. فالسياق الذي فرض ويفرض نفسه على معظم إن لم يكن كل من يكتبون في مجال الرأي بالصحف والدوريات، هو السياق السياسي، سواء كان التناول بشكل مباشر أو غير مباشر، فالكلام في النهاية "متعاص" سياسة كما يقول التعبير العامي، وقد يلجأ البعض لتغيير الأسلوب فيتجه إلى ما يظن أنه خفة ظل وسخرية، فإذا به مسخ "متعاص" قلة أدب!.. أما الفاصل فقد لجأت أكثر من مرة إلى فواصل من نوع خاص، أو بالأحرى يخصني، وهو العودة إلى ثنايا الذاكرة البعيدة أيام الطفولة والصبا والشباب المبكر في القرية والغيط والمولد والنواصي والتعليم من الأوَّلي – واو مفتوحة ومشددة- إلى الجامعي وما فوق الجامعي، والجيش - أي الخدمة العسكرية- ثم السجن، ومن بعده السفر طريدًا شريدًا فقيرًا يقول بلاد الله لخلق الله!

فاصل قد يساعد على الاستراحة ولو قليلًا من وجع الدماغ والمناهدة، اللذين يفرضان نفسيهما على المرء أحيانًا، بعدما يقرأ أو يسمع ما يُعتقد أنه مغالطات تجافي وقائع التاريخ ودروسه، وتجافي المنطق وأصوله، وفي هذا كثير ما يجد المرء نفسه أمام نوعين من الخلق الذين صارت الكتابة مهنة لهم، فكان منهم من أهانوها بدلًا عن أن يمتهنوها، واقترفوها بدلًا عن أن يفعلوها!

وكان منهم من استعد لها وقرأ وفهم وأتقن ثم اجتهد فتأتي سطوره غير محتملة لزيف أو لبس، وقد يصعب في غمرة سخونة القضايا المطروحة ألا يتم التمييز بين النوعين، فتكون الحقيقة هي الضحية ولو كانت نسبية يختلف عليها.

ولقد كنت أعجب من الأستاذ هيكل - رحمة الله عليه - وقد حلت ذكرى رحيله منذ أيام قليلة، كيف أنه لا يرد على من يهاجمونه شخصًا وعقلًا ودورًا وإنتاجًا، ويشتط بعضهم لدرجة التجريح والسباب، وعندما أسأله لماذا لا يرد، فيرد: "يا شيخ.. بلاش كلام فارغ"، عبارة متكررة مسحوبة بإشاحة من يده ووجهه، بما يحفز السائل على أن يغير المسار، ويتجه إلى ما ليس كلامًا فارغًا.. والمرة الوحيدة التي بدت وكأنها رد منه على حملة أثيرت ضده، كانت كتابه عن قضية مصطفى أمين، وأذكر أنني بعدما قرأته، وكان حريصًا على أن يسأل البعض من ضيوفه عن رأيهم في شأن أو آخر، بل إن كل اللقاءات كانت تبدأ دومًا بسؤال منه للضيف "هيه.. إيه الأخبار.. وماذا عندك"؟! وسألني عن الكتاب فقلت إنني لم أقرأ من قبل نصًا أقرب إلى عملية ذبح وسلخ وتشفيه، دون أن تراق نقطة دم مثلما هو هذا الكتاب.

وفي ظني أن ما جعل الأستاذ هيكل يكسر القاعدة ويشتبك وبجسارة هائلة، هو أن الحملة عليه- آنذاك- كانت وكأنها قصف من راجمات صواريخ، إحدى منصاتها كانت رئاسة الدولة، وكتبتها، ومنصات أخرى تضم أنصار وتلاميذ وأتباع آل أمين، وأيضًا من اشتركوا في "الهلليلة"، ليس حبًا في مصطفى أمين، ولكن كرهًا في هيكل، واتجهت الحملة إلى اغتيال شخصية هيكل، حيث سعت لتجريده من سمات إنسانية سامية كالوفاء والعرفان بالجميل، كما أنها سعت أيضًا لإثبات أن القضية كلها مصطنعة مفبركة، وفي هذا إدانة مباشرة لجهاز المخابرات الذي ضبطها، وللنظام السياسي الذي أقدم على محاسبة المتهم.. ويبدو أن براقش جنت على نفسها، لأن هيكل لم يكن ليجد فرصة لإبراز ما لديه من وثائق ووقائع تخص القضية، إلا بعد أن بدأت الحملة واشتدت وأوغلت في المغالطات.

وفي مناخ الاشتباكات أو الجدل الساخن حول قضية من القضايا، خاصة إذا كانت تاريخية ومرتبطة بالصراع السياسي، يصعب اختيار الخصم الذي يتعين عدم إهماله، وفي هذا أتذكر واقعة كررت ذكرها غير مرة، إذ كنا في اجتماع تأبين الراحل المتميز الدكتور محمد السيد سعيد، وأثناء الانصراف تصادف والتقينا الدكتور عبد المنعم سعيد، وأنا على درج مدخل نقابة الصحفيين، وكان آنذاك رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام، وقيادة متنفذة في أعلى مستويات الحزب الوطني، ويُقال إنه قريب من جمال مبارك وبابتسامته الهادئة ونبرته الأكثر هدوءًا سألني: "متى ستتوقف عن مهاجمتي.. ولماذا أنا بالذات؟"، وبطريقتي التي لا هدوء فيها أجبت بغير تفكير: "لأنك أنظف واحد في الحزب الوطني، والوحيد الذي يمكن الاشتباك معه.. أم أنك تريدني أن أنزل لمستوى رجب يا دي العجب.. أو الثاني صاحب طشة الملوخية"؟!.. وعندها اقترحت عليه أن يبادر من مواقعه الكبيرة في الأهرام والحزب إلى عقد دوائر حوار بين رموز الأطراف المختلفة في الحياة العامة، يكون أول همها هو "تقسيم العمل في الجماعة الوطنية"، وكيف تتكامل المعارضة مع الحكم في بعض المسارات، خاصة مسار العلاقة مع الدولة الصهيونية ومع الولايات المتحدة.. وحتى الآن وقد مرت في نهر الزمن سنون طويلة لم يستجب الرجل، رغم أنه مكتوب له الاستمرار في رئاسة مجالس الإدارة الصحفية، والاستمرار في الاقتراب بدرجة أو أخرى من دوائر صنع القرار واتخاذه.

أردت أن أقول بعد ذلك الاستطراد، إن هناك من لا يجب على المرء أن يلتفت إلى إهانتهم لما يقترفونه من كتابة.. وأن الأمثلة على ذلك كثيرة، قد يحين وقت للإشارة إليها.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 فبراير 2019.

Thursday, 14 February 2019

"دستور.. يا أسيادنا"





بعيدًا عن نتيجة بقية إجراءات تعديل الدستور.. وبصرف النظر عما إذا كنت من مؤيدي التعديل أو من رافضيه أو ممن لا يعنيهم الأمر، فإن متابعتي لما يكتب على الفيس بوك وفي الصحافة وما يقال في بعض برامج التليفزيون، تشير إلى أن الأمر تحول إلى ظاهرة تستحق التأمل، وتضاف إلى ما أسميته "الجدل القاهري"، على وزن "الجدل البيزنطي"، غير أن القاهري تفوّق بمراحل على البيزنطي الذي اقتصر على مدة قصيرة، كانت هي زمن انعقاد أحد المجامع المسكونية "المؤتمرات الكنسية الدولية"، وكانت القضية هي طبيعة السيد المسيح- له المجد- أما القاهري فهو ممتد متشعب محتدم.. حول يوليو وعبد الناصر.. حول الرأسمالية ورأسمالية الدولة.. وحول دور الجيش في الحياة العامة.. وحول العلاقات المصرية– السعودية، وفي هذه الأيام أضيف موضوع تعديل الدستور، ليزداد التفتيت والتمزق والاختلاف فيما البلد يحاول الفلفصة من أصابع الإرهاب والفساد والتخلف وكل السلسال الذي يعرفه الجميع.. ومن عجب أن الجدل قاهري، بمعنى أنه بين صفوف بعض من يسمون النخب السياسية والفكرية الذين يندر أن تجد فيهم أحدًا وقد انكوى بلهيب المشاكل الحياتية اليومية.

لفت نظري أن الذين حاربوا ويحاربون وبجسارة وضراوة ونفس طويل ضد سلطة النص الديني بوجه خاص، والنص عموما، واعتبار أن أي نص هو نسبي وتاريخي ومحكوم بظروف كتابته، بل إن بعضهم لا يتردد أن يناقش القرآن الكريم وبقية الكتب السماوية بهذا المنهج، ويستميتون في التمسك بحتمية التخلي عن قدسية النصوص قرآنا وتوراة وإنجيلا وأحاديث نبوية ومزامير! ثم تجدهم هم أشد خلق الله الآن صراخًا وعويلًا وصخبًا ضد أي اقتراب من قدسية نص وضعي وضعه بعض الأفراد، كان معظمهم مختلفًا على اختياره وعلى ثقافته وعلى كفاءته، وبحكم أنه لا أحد يحوز الكمال لا النسبي ولا المطلق!

لقد استل بعضهم خناجر على هيئة أقلام، وقذائف في صورة كلام، وتصايحوا متنادين لجمع الصفوف وسل السيوف، ولم يبق إلا إهدار دم وإزهاق روح كل من يجرؤ على مجرد طرح أمر تعديل الدستور للمناقشة! لكي تتناوبه الخناجر وتمزقه القذائف.

ومن هنا أبدأ بالصياح "دستور يا أسيادنا"، كما كانت كودية الزار تصيح معتذرة لأسيادها العفاريت، كي لا يؤاخذوا جاهلًا عاب في الزار أو في الجن.. وأيضا كما كان الغلبان راكب الركوبة- حمارا كانت أم أتانا أو حتى جاموسة- يقفز من عليها نزولا وينحني ليخلع "بلغته" إذا كان لديه- بلغة: أي لا مؤاخذة مداس- ويرفع يده عاليًا ومعها صوته "دستور يا أسيادي"، موجها النداء للأكابر الجالسين على الكراسي أو الكنب أمام الدوار الكبير! فدستور يا أسيادي عبدة النص الدستوري.. تعالوا نناقشها قطعة قطعة.. أو "حتة.. حتة"!

هل الدستور نص سماوي مقدس؟ وهل دستورنا مرن أم جامد؟! وهل الظروف التي وضع فيها الدستور وكذلك طريقة اختيار لجنة وضعه، وكذلك شخصيات اللجنة لا تحتمل الاختلاف ولا المناقشة؟ وهل الظروف تغيرت أم لم تتغير؟ وهل ما يحيط بالوطن من متغيرات- ولن أقول مخاطر حتى لا تستمر تهمة اتخاذ المخاطر شماعة للاستبداد- يستدعي مراجعة كل ما من شأنه التأثير على قدرتنا كشعب ودولة على التعامل مع هذه المتغيرات؟!

الإجابة معلومة، وفيها أن الدساتير ليست نصوصًا سماوية مقدسة، لأنه حتى المقدس السماوي وجد في صفوف مقدسي النص الوضعي من ينادي بتجميده ونقده والاختلاف معه، بل وتعطيله!

وإذا كان ذلك كذلك، فإن هناك العديد من المسوغات التي تبيح للمجتمع المصري أن يراجع الوثيقة الأم الأساسية مراجعة موزونة تستجيب للضرورات التي هي في شرع ربنا تبيح المحظورات!

لقد كنت وما زلت أتصور أن حكاية المدة الرئاسية في ظل المتغير الجوهري المهم الذي طرأ على موقع الرئاسة، وأعني به أن الجالس فيه الآن إنسان لديه عزوف عن التأبيد في الكرسي وعن الأبهة وعن الرحرحة في ميت أبو الكوم أو في شرم الشيخ.. إنسان يعرف طبيعة المهمة التي تحمّلها ويسابق الزمن ويقاوم المعوقات بكل ما أوتي من طاقة، هي حكاية لا ينبغي أن تشتعل عليها المعارك، ناهيك عن حجم التحديات وحجم ما أنجز، وعندها وببساطة فمن الوارد أو من المقبول القول اتركوه يستكمل في المدى الزمني المناسب، والمهم أن يستمر الإنجاز بالوتائر نفسها.

ثم إنني لا أتردد في أن أشير إلى أن كثيرا من الدول، وفي حالات الحرب والتهديدات الخطيرة التي تتهدد وجودها، بما في ذلك الكوارث والحروب الأهلية، تتجه من فورها لتعطيل العمل بالدستور وسن قوانين جديدة صارمة وقاطعة تجعل من المواجهة أمرا لا يحتمل لجاجة ولا ينتظر تنطعا.

وعود على بدء، فإن هذه السطور تكتب مساء الثلاثاء لتنشر صباح الخميس، ومن الوارد أن يحدث متغير ما في مسار الاتجاه للتعديل، ومع ذلك وحتى تتضح الرؤية تماما ونعرف ما الذي سيتم، ما المانع أن يتوقف أسيادنا مقدسو النص الوضعي، ولو قليلا لالتقاط أنفاسهم وابتلاع ريقهم، ليقوم حوار وطني موضوعي ومحترم لا يعتمد لغة الردح والتلقيح ولا نبرة الوعيد بالنهاية المحتومة، لأننا أمام تعديل لا يستهدف إطالة فترة بقاء شخص في كرسي الرئاسة، لأنه "مرتاح كده"، ولكننا إزاء تعديل يعطي الفرصة لمزيد من الإنجاز بنفس الوتائر.. يعني مزيدًا من العمل والإرهاق ومسابقة الزمن.. ومرة ثالثة "دستور يا أسيادنا"!

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 فبراير 2019.

Tuesday, 12 February 2019

رصيد مصر في إفريقيا





في مصر القديمة، وقبل ظهور علوم الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، حدد القادة المصريون أمن وطنهم بأنه يمتد من قرن الأرض "القرن الإفريقي" إلى منابع المياه المعكوسة أي منابع دجلة والفرات اللذين يجريان من الشمال إلى الجنوب عكس جريان النيل من الجنوب للشمال، وكانت علاقات مصر بقارتها الإفريقية ذات أبعاد متعددة اقتصادية وأمنية كما أشرت، وفي العصر الحديث توغلت مصر جنوبًا باتجاه منابع النيل والقرن الإفريقي، وأصبحت تسيطر بحق الغزو أو الفتح على مناطق واسعة معلومة لمن يهتمون بفترة الخديو إسماعيل، وبقي حق الفتح هو الأساس الذي ضمت به مصر تلك المناطق. ولم يعد ممكنا بعد ثورة يوليو 1952 وما أعلنته من مبادئ وسياسات تؤكد إيمان مصر بحق الشعوب في تقرير مصيرها وانتهاء أي شرعية تعتمد على الاحتلال أو الغزو أو الفتح؛ أن يبقى السودان تابعا لمصر.. وهنا أستأذن في جملة اعتراضية، هي أن العباقرة الذين يطالبون بتغيير العلم الوطني المصري الحالي والعودة لعلم الهلال والثلاث نجوم يتناسون عمدًا، أو بالأحرى يجهلون مؤكدا، أن العلم الأخضر ذا الهلال الأبيض والنجوم الثلاث البيضاء خماسية الأطراف كانت ألوانه تنصرف إلى أن الاخضر يرمز للوادي والدلتا والهلال للإسلام والنجوم الثلاثة إلى مصر والنوبة والسودان ومنه دارفور وكردفان! ومن الوارد أن يحتج إخوتنا في السودان– والعملية لا ينقصها تأجيج أو تلكيك– على عودة ما يرمز إلى تبعية السودان لمصر! وفي هذا تراث طويل من السلبيات، أشك كثيرًا أن أولئك العباقرة يعرفونه أيضًا.

ومع تطور العلاقة، وانطلاق حركات التحرر الوطني الإفريقية، وسعي الشعوب للحرية والاستقلال، كانت المحروسة بقيادة جمال عبد الناصر هي السند والموئل والداعم لحركات التحرر الإفريقية، وبات الدور المصري في القارة دورًا قياديًا رائدًا بقيت آثاره وفاعليته إلى الآن، رغم السنين الكالحة الكئيبة التي تخلت فيها مصر عن دورها، وتركت الميدان خاليا للنفوذ الفرانكفوني والأمريكي والصهيوني.. وما زال في العديد من عواصم ومدن دول القارة شوارع وميادين تحمل اسم جمال عبد الناصر، وما زال هناك قادة أفارقة يذكرون الرجل ودوره، ولا أنسى أبدًا أن القائد الفذ نيلسون مانديللا عندما زار مصر بعد انتصار شعبه في نضاله ضد الاستعمار الاستيطاني الأوروبي، سئل عن أول أمر يحب أن يفعله في مصر، فأجاب من فوره أنه سيزور ضريح جمال عبد الناصر ويلتقي محمد فائق.. وهناك وقف يكلم الثاوي في تراب مصر، ويتأسف له أن الزيارة جاءت متأخرة عن موعدها عشرين عاما! وما أستهدفه من هذه الإشارات هو أن لمصر رصيدا ذهبيا كبيرا في قارتها، وفي آسيا وأمريكا اللاتينية، تم إيداعه في الحقبة الناصرية، ولا يمكن التفريط فيه ولا التقليل من شأن من راكموه بجهود جبارة يعرفها أبناء إفريقيا، وكثير من دول آسيا وأمريكا اللاتينية.. وهو رصيد يتعمد المأفونون الغطرشة عليه وتجاهله والتقليل من شأنه عندما يركزون وبمنهج حسابات البقالة على قراءتهم للتاريخ.

إن تسلم مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقي لا ينطلق من فراغ ولا يسير نحو مجهول، فهي كما أسلفت حلقة متممة لما بدأ منذ مطلع الخمسينيات، وهي كما هو واضح من التصريحات الصادرة عن الرئاسة في مصر ستكون منصة انطلاق إفريقي شامل للتكامل ولتعظيم الموارد ولحل المشكلات المزمنة وغيرها من الأهداف، وللحق فإن الرئيس السيسي وفريق العمل الذي يعاونه في السياسة الخارجية نجح بامتياز حتى الآن في ترميم الصدوع التي نتجت عن فترة الإهمال الطويلة لإفريقيا في عهد مبارك، وفي مد الجسور السياسية والاقتصادية والثقافية مع دول القارة، وأضحت القاهرة ثانية مقصدًا مهمًا لقادة الدول الإفريقية، وهو نجاح تتضافر معه في ضفيرة واحدة شبكة العلاقات القوية مع دول الشرق، كالهند والصين واليابان وفيتنام وغيرها، ومع دول أوروبا وأمريكا الجنوبية.

ومن البديهي أن النجاح السياسي لا ينفصل عن الأبعاد الاقتصادية والثقافية، ونعرف أن هناك شخصيات مصرية خارج النطاق الحكومي، تلعب دورًا مهمًا في تأسيس وتنمية علاقات اقتصادية مصرية- إفريقية، وبقي أن يتم التركيز الآن ومستقبلًا على البعدين الثقافي والإعلامي إذا جاز الفصل بين الإعلام والثقافة.. ولا أعلم إذا كانت الإذاعات الموجهة باللغات واللهجات الإفريقية، التي كانت تبث من القاهرة، حتى أواخر الستينيات مستمرة أم لا، وإذا كانت مستمرة فهل تم تطوير مضمون إرسالها بما يتناسب مع التغيير الذي حدث في دول القارة بعد التحرر ونيل الاستقلال، أم لا، أم أنها أوقفت تمامًا؟!

لقد ظل إخوتنا في السودان- على سبيل المثال- يشتكون وأحيانًا يسخرون من جهل النخب المصرية بالتكوين السوداني، حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا وجغرافيًا.. ناهيك عن الميراث الثقيل في هذا المضمار.. ميراث النخاسة وميراث ربط لون البشرة السوداء بمهن وأعمال معينة، معظمها خدمي متدنٍ، بل إن كثيرين من أهل الكتابة يكتبون عن السودان بصيغة المؤنث، وكذلك اليمن ولبنان والعراق، يتعاملون معها مؤنثة، ما يثير سخرية شعوب تلك الدول.

غاية القول إن دور مصر في قارتها ليس عملية آلية ميكانيكية، ولكنه حركة يجب أن تكون مستمرة وذات مضمون متطور، وإلا فإنه دور ضامر وراكد، ولأن مصر تولت رئاسة الاتحاد فالعبء أضحى مضاعفًا؛ لنواكب حركة الرئيس على كل المستويات.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 فبراير 2019.

Thursday, 7 February 2019

حتمية التماسك حول نظامنا الوطني





المؤامرة لا تصنع التاريخ، ولكنه لا يخلو منها، وهي فيما أرى تخطيط من طرف ما ضمن صراع بين أطراف بعينها، ولأنه يتسم بعدم المشروعية، وباتخاذ وسائل ملتوية منها رفع شعارات نبيلة ومضامين سليمة، للتغطية على ما ليس نبيلًا ولا سليمًا، فإنه يسمى مؤامرة، وقد عرفنا في تاريخنا العربي – الإسلامي ألوانًا من هذا الشأن، كان أشهرها فيما أظن رفع المصاحف على أسنة الرماح في الفتنة الكبرى.. ورفع أصابع نائلة زوجة عثمان بعد أن بترت بأسلحة من هاجموه، للمطالبة بدمه.. فيما الحقيقة أن الفئة الباغية هي من رفعت هذا وذاك، للوصول إلى الحكم ضمن صراع طويل بين الأمويين والهاشميين.

وفي سياقنا المعاصر الآن أذهب مع الذاهبين إلى أن موجة الكلام على حقوق الإنسان، ومن أعلى المستويات في التحالف الأطلسي، لن تكون هي الموجة الأخيرة، التي يتم رفع شعار نبيل ومضمون سليم للتغطية على الهدف الحقيقي، وهو وقف التحول في مصر نحو ما يبعدها عن حكم ذوي المرجعيات الدينية، مثل الإخوان والسلفيين ومن ينزع نزوعهم! وأتوقع أن تكون الموجة التالية تحت شعارات الدفاع عن الدستور المصري، والتعريض بدور القوات المسلحة في الحياة العامة المصرية.

وهذا التكتيك الغربي الأورو-أمريكي يعد الحلقة المعاصرة في سياق بدأ مبكرًا مع بدايات الاستعمار القديم، وبعد أن كانت البوارج والمدافع والاحتلال المباشر هي الوسيلة لفرض إرادة الغرب وكسر إرادة الدولة المصرية وتحجيم دورها، جاءت حلقة الحصار الاقتصادي والسياسي، ومحاولة فرض التغيير في مصر لتسير حسب الدور الذي رسموه لها، ثم جاءت حلقة أشد تعقيدًا اجتمع فيها أسلوب البوارج والطائرات مع الحصار، كما حدث في 1956 و1967، وبعدها خف الأمر قليلًا إثر حدوث تغييرات في التوجه السياسي – الاقتصادي المصري بالانفتاح والصلح مع إسرائيل، وها هي الحلقة الأكثر حداثة، وهي استخدام لافتات وشعارات نبيلة لغايات رذيلة.

ولن نعدم من ينتقل من المطالبة بحقوق ما يسمى بالناشطين والجمعيات غير الحكومية، إلى إعادة الكلام عن حقوق أقليات دينية وطائفية واجتماعية، ورفع وتيرة الكلام عن أوضاع دستورية وقانونية، والمؤكد أنهم سيبحثون كل فترة عن مسوغ لتدخلهم يحقق لهم تفتيت وتفكيك المحروسة، وفرملة وتائر نموها الاقتصادي، وتماسكها الاجتماعي، وإنهاء أية احتمالات لنمو دورها الإفريقي والعربي والدولي.

لقد استطاعت مصر بقيادتها الوطنية بعد 30 يونيو أن تتفادى وبقوة، انتشار الفوضى وتنامي العنف وضياع الدولة.. واستطاعت أن تتصدى للإرهاب الدموي المسلح الممول والمسنود من قوى إقليمية ودولية.. واستطاعت أن تسترد علاقاتها العربية والإفريقية، وأن تتقدم في هذا المضمار بقفزات واسعة مدروسة وموزونة.. واستطاعت أن تدير سياستها الخارجية بما يكفل فرض احترام إرادة شعبها على مختلف الأطراف، وشاهدنا تطور العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ومع الدول الكبرى في الشرق، مثل روسيا والصين والهند واليابان، ونجحت مصر في تأكيد أنها ليست مصدرًا لتهديد أي طرف خارجي، سواء كان تهديدًا عسكريًا أو أيديولوجيًا، وأكد هذا النجاح قدرة متخذ القرار في مصر على الاستفادة من دروس التاريخ، خاصة دروس تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر!.. أي وباختصار استطاعت مصر أن تنزع أية ذريعة قد تتخذ من أطراف خارجية للتدخل في شؤونها وفرملة نموها وكسر إرادتها.. ولكن الذين أدركوا منذ أزمان طويلة أن المحروسة لو تركت لحالها وتماسكت داخليًا وتوازنت، فإنها تقوى، وإذا قويت فلا بد أن تلعب دورها الحتمي في دوائر محيطها، وعندئذ ستتقاطع الخطوط، وسيكون للدور المصري تأثير على فاعلية الأدوار الفرانكفونية والأنجلوسكسونية واللاتينية والأمريكية.. وعليه فلابد أن يجدوا مسوغات جديدة لحصار الدور المصري، وضرب المحاولة الجادة الراهنة التي تسعى لبناء وطننا بهدوء، ودون تهديد من أي نوع لأي طرف!

إن المأساة الكبرى هي أن تلك القوى الدولية ترى أن مجرد تماسك وتوازن وقوة مصر يعد خطرًا ينبغي مواجهته مبكرًا، ولذلك فنحن فعليًا أمام سؤال جوهري طالما ذكره كاتب هذه السطور في غير مناسبة، وهو كيف تستطيع مصر أن تقوى وتتقدم دون أن تمكن أطرافًا دولية من منع هذه القوة وهذا التقدم، أو ضرب مصر لقصم ظهرها وجعلها ترتد إلى نقطة الصفر دومًا وكأنها سيزيف الإغريقي، الذي عوقب بحمل الصخرة لقمة الجبل دون توقف؟!

نعم، إن العقل المصري النخبوي والجمعي مطالب الآن وبقوة أن يحاول الإجابة عن هذا السؤال، وأذكر في هذا الصدد أنني منذ سنوات عديدة طرحت السؤال على أحد أبرز رجال الخارجية المصرية فكان رده هو أن نتعود على تقديم التنازلات وضرب مثلًا بألمانيا، التي صعدت من وهدة الهزيمة الساحقة، والدمار الكامل إلى قمة الازدهار، لأنها قبلت بالتنازلات العديدة، التي فرضت عليها، أو حتى طلبت منها، ولذلك انتهت مشاكلها مع الأطراف المنتصرة، وتفرغت لبناء نفسها وأنجزت ما أنجزت، وهذا الكلام يترتب عليه سؤال آخر هو عن ماذا نتنازل، وما المدى المقبول للتنازلات؟!

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 فبراير 2019.

Tuesday, 5 February 2019

عندما أغلق باب الاجتهاد





شاع أن الجدل البيزنطي كان من حول أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة.. وشاع أيضا أنه كان من حول جنس الملائكة إناث هم أم ذكور؟!

ويقول المؤرخون إنه حدث أثناء انعقاد أحد المجامع المسكونية، وكانت القضية المطروحة هي ما احتدم فيه النقاش وتباين الاختلاف لحد تبادل الاتهامات بالهرطقة من حول طبيعة السيد المسيح له المجد، هل هي واحدة إلهية أم هي واحدة بشرية أم هما طبيعتان إلهية وبشرية، وأيضا من حول السيدة العذراء هل هي أم له من الناحية اللاهوتية أم فقط من الناحية البشرية ومن ثم هل تكون لها منزلة التقديس أم لا؟! ويصف أحد مؤرخي تلك الفترة في مطلع العصور الوسطى الحال في المدينة بقوله: كنت تذهب لبائع الخبز تسأله خبزا فلا يعطيك ويسألك هل المسيح إله أم إنسان، وكنت تشير لساقي الماء أن يروي ظمأك فيبادرك هل العذراء أم للمسيح من ناحية اللاهوت أم لا؟!.. وأظن أن أحد ملامح الحياة في القاهرة وعلى مدار حوالي نصف قرن هو ما يمكن أن نسميه "الجدل القاهري"، على وزن "الجدل البيزنطي"، حيث ظلت الأسئلة وتبادل الاتهامات بالهرطقة الوطنية قائمة حول ثورة يوليو وعبد الناصر والتحول الاشتراكي والتأميم وغيره، وقد تفوقنا على البيزنطيين الذين اقتصرت مدة جدلهم على الفترة الزمنية التي انعقد فيها المجمع المسكوني "المؤتمر العالمي لقادة الكنائس"، فيما نحن نستهلك عقودا متوالية منذ سنة 1970 إلى الآن!

وأبادر من باب "التطهر الاعترافي" أنني لم أفلت من الانخراط في هذا الجدل القاهري، رغم حرصي على أن أبتعد متجها إلى ما أظنه قضايا مستقبلية أو أراه أولى بالاهتمام، وربما آن الأوان لتركيز الجهد على ما أراه مهما في حياتنا السياسية العامة، اللهم إلا إذا تفاقمت فداحة افتراء البعض على حقائق التاريخ، فعندها يصبح الصمت سكوتا من شيطان أخرس.

لقد كتب نيوتن مقالا نشر الأحد- أي قبل أمس الأول- أظنه يحمل من الصدق والموضوعية قدراً هائلا، إذ ميز بين المقاصد وبين الوسائل أو الأدوات في مشروع جمال عبد الناصر، ووضع النقاط على الحروف فيما يتصل بمقاصد ذلك المشروع وكلها لا يختلف عاقل حولها، ولكن الوسائل والأدوات هي ما يجب مناقشته وما يجب تقييمه والاستفادة من الدروس وعدم إعادة إنتاج السلبيات.

والحقيقة التي لا بأس من ذكرها هي أن من وراء استمرار طرق البعض أو "دقهم" على هذا الموضوع مرارا وتكرارا وبغير توقف، هو أن تصل الرسالة إلى أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي في مصر، لأن ذلك البعض يرى فيما يجري الآن وخاصة على الصعيد الاقتصادي إعادة تدوير للنهج الناصري مع فوارق بسيطة، ومن ثم فإن النتيجة ستكون بالتالي مشابهة، إن لم تكن أفدح من السلبيات التي يرونها سببا في الإخفاق.

وفي ظني أن إعادة التدوير ليست مقتصرة على أصحاب القرار، وإنما هي في الأصل متصلة بالتكوينات الرأسمالية المصرية التي لم تملك في معظمها الشجاعة ولا الوعي بنقد نفسها تاريخيا منذ نشأتها إلى الآن، ولا بتصويب أدواتها والإفصاح الكامل الصادق عن مقاصدها وأهدافها، والأثمان الاجتماعية التي يمكن أن يدفعها المجتمع من أجل تحقيق مقاصد الرأسماليين المصريين.. ذلك أنني أعتقد – ولست أظن – أن ما يبدو أنه إصرار على إعادة تدوير سياسات وأدوات ثورة يوليو، إنما هو ناتج عن إصرار أكثر ضراوة من الرأسمالية المصرية على عدم تجديد أدواتها وتنقيح مقاصدها، هذه واحدة أما الثانية فهي أن التاريخ يعلمنا أنه عندما أغلق باب الاجتهاد الفقهي حوالي القرن الرابع الهجري لم تتعطل مسيرة تطوير الفقه ومواكبته للمتغيرات المختلفة وفقط، وإنما انعكس الأمر على بقية الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية، وأخذت عوامل الانحطاط تتراكم ليتبدد الثراء الفلسفي والفكري والأدبي والعلمي، ويتكرس الظلام الذي اشتدت عتمته مع انتقال الخلافة إلى العثمانيين!.. ومن ثم فإن الاجتهاد في تجديد كل جوانب الحياة يعد فريضة عقلية وحضارية على كل من يملك عقلا ويحوز سلطة القرار.

تعالوا بنا نعيد قراءة مسار الرأسمالية المصرية قراءة نقدية جادة، توضح للناس ماذا كانت وبقيت مقاصد أولئك الرأسماليين، وهل كانت وسائلهم وأدواتهم سليمة على مر الحقب أم أنها كانت دوما متسقة مع مقصدهم الرئيسي؟!

وتعالوا بنا نقول لأصحاب القرار لقد أعدت الرأسمالية المصرية ممثلة في رموزها المعاصرين برنامجا محددا للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، ووضعت الضوابط التي تحول بين تغول المصالح الفردية على المصالح الاجتماعية الواسعة، ولنترك لهذه الرأسمالية المجال للتطبيق لتحقيق هذا النهوض الشامل، وبعدها نتحاسب!

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 فبراير 2019.

Friday, 1 February 2019

طرف من السيرة الهيكلية





كان وسيبقى نموذجًا "للرجل المؤسسة"، لأنه لم يكن أسطورة مثلما قال هو: "عبد الناصر ليس أسطورة".. فالأسطورة صنع غير إنساني.. صنعتها الآلهة في مصر القديمة، وعند الإغريق والرومان وفي أقصى الشرق في البوذية والهندوسية والزرادشتية.. أما المؤسسة فهي من صنع الإنسان، تتجلى فيها القدرة على الإبداع والانضباط، وتنوع خطوط الإنتاج والتركيز على إنجاز الهدف بالأخذ بأسباب العلم والفن مجتمعة.

لم يكن محمد حسنين هيكل حالة نمطية متكررة في دنيا الصحافة والسياسة، إذ لطالما كان هناك كبار مصقولون في الصحافة، مثّلوا نجوما ساطعة في سمائها، كالتابعي والصاوي ودياب وآل زيدان وآل تقلا وآل أمين.. ومعهم في سماء السياسة أفذاذ قد يجلون عن الحصر، منهم شموس تدور من حولها الأفلاك نجوما وكواكب وكويكبات، ولكن هيكل كان فاعلًا ورقمًا صحيحًا في الصحافة، خبرًا وتحليلًا ومقالًا واستشرافًا للمستقبل وإدارة، وكان كذلك في السياسة متفردًا في مداره من حول شمس زمانه السياسي، جمال عبد الناصر، مستشارًا ومحاورًا بل وأيضا متآمرًا.. وفوق ذلك كانت ميزته الكبرى مثقفًا متعدد الجوانب، يحفظ شعرًا بآلاف القصائد من الجاهلي وما بعده حتى العباسي والحديث، ويقرض الشعر ويتذوق فنون السينما والمسرح، ويسعى لرؤية العروض في عواصم الغرب، ومعها فن الموسيقى، عربية وعالمية.. والمفاجأة أنه كان يجيد تقليد الأصوات الإنسانية، ويطلق القفشات والنكت.. وعند اللزوم كان يجيد بضراوة فنون التنكيل بالخصم، إذا لزم الأمر، وتظهر "العين الحمرا" كلما احتاج المشهد.

لذلك كله لم يكن تميزه ككاتب صحفي مستندًا على إجادته المتفوقة لفنون العمل الصحفي فقط، وإنما لارتكازه على ثقافة موسوعية تمتد من التاريخ إلى الجغرافيا السياسية إلى علم السياسة والتوثيق.. ومن الأدب إلى الفلكلور.. ناهيك عن الاجتماع بشقيه النظري والعملي، أي هواية النزول إلى الشارع والقرية والالتقاء بالناس.

كان هيكل يؤكد دومًا أنه لا يمكن فهم السياسة، واقعًا ومتغيرات، إلا بوجود الخريطة أمام المحلل والكاتب.. والخريطة عنده وفي الحقيقة أيضا ليست تسجيلًا لأماكن وفق خطوط العرض وخطوط الطول والتوزع بين يابسة ومياه، وإنما هي- وكما هو مستقر- تضم التنوع والتعدد البشري "جغرافيا بشرية".. فوق تنوع وتعدد تضاريس "جغرافيا طبيعية".. وتنوع في مصادر الثروات الطبيعية "جغرافيا الموارد".. وهلم جرا لنصل إلى القول المشهور: "التاريخ جغرافيا متحركة.. والجغرافيا تاريخ ثابت".

ولقد جمع الأستاذ هيكل بين متناقضين، أو بالأصح ما يبدو أنهما متناقضان، حسبما كتبت له ما لم أنشره في عيد ميلاده الثمانين، أي قبل رحيله بثلاثة عشر عاما، وبعدها اكتشفت أنهما ليس شرطًا أن يكونا نقيضين، أولهما: اللورد الذي يعيش الوفرة والثراء والفخامة ويعمل لديه من يخدمه في كل أمر، ابتداء من التنظيف لقيادة السيارة إلى جمع المادة العلمية اللازمة لمؤلفاته.. وثانيهما: ابن البلد الذي نشأ وترعرع في باسوس وباب الشعرية وحصل على الدبلوم المتوسط وارتدى البالطو الكاكي المتواضع ليساعد والده في وزن أكياس القطن على ميزان القبّان!

كتبت له أنني وقد رأيت بجواره تمثالًا للكاتب المصري "جالس القرفصاء"، وهو تمثال مشهور في مصر القديمة، أتخيله– أي الأستاذ هيكل– أننا لو كنا في عصر آمون ورع إلهًا للكتابة، غير أنني أراه إلهًا شرقيا أكثر منه إلهًا غربيا، لأن الشرقي من الآلهة معصوم منزهٌ عن الخطأ دومًا، أما الغربي ومثاله زيوس- رب أرباب الإغريق- فإنه ينزل من قمته على جبل الأوليمب ليتسكع في أثنيا وسط البشر، يعاكس الفتيات الصغيرات ويشاكسه الفتيان! وأرى أن ابن البلد كثيرا ما يصارع اللورد داخل شخصيته، فإذا بالأول يصرع الثاني على أكتافه!

وعندما قرأ الأستاذ هيكل ما كتبته ضحك وسألني بغتة: كيف التقطت هذه التركيبة؟! فرددت من فوري: كلما شاهدت منير عساف مدير مكتبك الأشقر، ذا العينين الزرقاوين والشعر الأصفر نسبيًا، وشاهدت من يقدم واجب الضيافة أسمر البشرة مبتسم الثغر في وقار وأناقة، وكلما ذهبت إلى برقاش، حيث البيت الريفي والمزرعة.. وكلما رأيت ضيوفك ومنهم قامات سامقة وهم ينتظرون دورهم في مكتب منير.. وكلما.. وكلما.. كنت أتخيل هذه الثنائية.. زد على ذلك أنني شاهدتك واستمعت إليك وأنت تقلد صوت السفرجي، وترد على مكالمة من لا تريد أن يعرف أنك موجود، إضافة إلى ما استمعت إليه من شعرك المرتجل في لحظته!

وكانت إجادته للإنجليزية نطقًا وكتابة، وإلمامه بغيرها من لغات أوروبية؛ عاملًا رئيسيًا في تعميق معارفه وثقافته، مضافًا إلى ذلك سفره الدوري للخارج ولقاءاته مع كبار عصره من صحفيين ومثقفين وساسة، لأنه كان صديقًا شخصيًا لمثقفين من وزن مالرو وسارتر ولرؤساء من وزن ميتران.. وقابل العديد ممن كانوا زعماء مرموقين في عصرهم كخروتشوف ومن بعده بريجنيف، وكنهرو ومن بعده أنديرا غاندي.. وكماو تسي تونج.. وشو إن لاي.. والخوميني ومن قبله الشاه.. وكل زعماء إفريقيا المرموقين تقريبًا.. اجتمع كل ذلك له، ولكنه لم يعرف التعالي لحظة واحدة على المعلومة، أيًا كان مصدرها، لأنه كان دومًا يبدأ مع ضيفه أيا كان حجمه ومستواه: ما الأخبار.. وماذا عندك؟!

نحن بالفعل إزاء مؤسسة محكمة التكوين، وفي اعتقادي أن مقالاته التي انتظم فيها منذ الخمسينيات إلى أن مات.. وأن كتبه العديدة كمًا ونوعًا؛ لم تلق بعد الاهتمام المناسب بقراءتها قراءة نقدية متأنية، لأنه قال الكثير، ويمكن أن يقال فيما كتبه الكثير أيضًا.

نشرت في جريدة الهلال، عدد فبراير.

Thursday, 31 January 2019

المؤتمر الصحفي الرئاسي.. وخواطر تاريخية





ليس من باب الفلكلور المصري الذي يحتفظ "للعنتريات والفتونة" بمساحة عريضة في حكاياته وأزجاله وأمثاله، ولا أخفي أنني- ضمن كثيرين- ما زلنا نحب ونحكي عن نماذج تناقلتها الأجيال، أو أخرى عاصرناها، وإنما من باب القراءة المباشرة لبعض وقائع المؤتمر الصحفي للرئيسين السيسي وماكرون، ومن باب ما يطرأ على الذهن من خواطر، قد تبدو عند البعض سخيفة أو خارج السياق!

وبدايةً، لقد كان ممكنًا ومقبولًا أن يمرر الرئيس السيسي العبارات، التي تحدث فيها ضيفه عن حقوق الإنسان.. يعني بالبلدي "يعديها"، أو "يمرقها" بالتعبير اللبناني، ومبرر تمريرها هو سيل بنود التعاون وآفاقه بين البلدين، وفي مجالات شديدة الحيوية والأهمية، خاصة أننا ما زلنا في عنق الزجاجة اقتصاديًا وأمنيًا، لكن الرئيس السيسي- وبثقة واضحة وقوية نسميها في حوارينا "معلمة"- لم يقبل أمرين، الأول هو الصمت الانتهازي، والثاني هو ما بدا وأنه مساس بالسيادة المصرية، أو أنه قصور في فهم وفي معايير الطرف الآخر، ويتيعن كشف القصور حتى لا تنبني عليه أحكام وسياسات خاطئة.

لقد كان واردًا- كما أسلفت- أن "يعديها" الرئيس في المؤتمر العلني، ويتكلم فيها في الجلسات المغلقة، خشية أن تؤدي مناقشتها والرد عليها علنيًا إلى انزعاج الفرنسيين، وتكون مادة متاحة للصائدين في أي مياه عكرة لتعكير مسار الزيارة والعلاقات المصرية– الفرنسية، ولكن الرئيس لم يفعل ذلك، وجاءت الأسئلة من الصحفيين المصريين، لتحمل ردًا على الضيف الفرنسي، واتجه السيسي إلى تأكيد وشرح السياق نفسه، الذي طالما أوضحه، وهو ضرورة التعامل مع أي قضية سياسية وحقوقية وفق الظروف التي تحيط بالحالة، موضع الحديث والضوابط، التي لا يمكن لمنصف عاقل أن يتجاهلها، وأخذ يشرح المفهوم الأشمل والأكثر صحة لمضامين حقوق الإنسان التي أضحت تتجاوز حريات التفكير والاعتقاد والتظاهر والتنظيم، وبقية الكلاسيكيات المعلومة إلى حقوق العمل والأمن والمسكن، وتوفير الاحتياجات الضرورية، وأيضًا الحق في ترتيب الأولويات بين مطالب ملحة وضرورية للأغلبية وبين مطالب قد نصفها بأنها ملحة لدى أصحابها مرتبط بتوخي الأساسيات وما فوقها لهم!

كان الرئيس حاسمًا بلباقة ولياقة في رصد الإنجازات الضخمة، التي أنجزت في مجال حقوق المسحوقين اقتصاديًا واجتماعيًا، وفي مجال مواجهة الإرهاب الدموي القاتل، ثم تقديم صورة واقعية عن التحديات المستقبلية المقترنة بمعدلات الزيادة السكانية، وما تتطلبه في التعليم والصحة والبنية الأساسية والعمل إلى آخره، وإذا كان من ملاحظة لفتت انتباهي، وتمنيت لو أن أحدًا أشار إليها هي، أنه كان ضروريًا لفت انتباه الجانب الفرنسي إلى أن في مصر قضاءً مستقلًا محكومًا بتشريعات واضحة مستقرة، استُقى كثير منها من المنظومة التشريعية الفرنسية، وأن هذا القضاء هو الجهة الوحيدة المنوط بها النظر في أمر أي متهمين محتجزين في قضايا تتعلق بالنشاط الإلكتروني وخلافه.. وأننا في مصر مثلما هم في فرنسا، وحسب ما ذكره الرئيس الفرنسي نحيل للقضاء من ترى سلطات التحقيق إحالته، ولا يجوز لأحد أن يتدخل في هذا الأمر.

وأنتقل إلى ما جال في ذهني من خواطر أثناء متابعة زيارة ماكرون ومشاهدة المؤتمر الصحفي، خاصة حديث الرئيس الفرنسي عن حقوق الإنسان، وأن لديه بعض الأسماء التي سيبلغها للرئيس السيسي.. الخاطر الأول، هو أنني أعلم مثل كثيرين غيري وجود ما يمكن أن نسميه تجاوزًا "لوبي" فرانكفوني مصري، يضم عددًا ممن حصلوا على تعليمهم فوق الجامعي من الجامعات الفرنسية، وعددًا من خريجي المدارس، التي كانت في الأصل بعثات تبشيرية فرنسية، وعددًا من العاملين في فروع مؤسسات فرنسية، كالصحف ووكالات الأنباء، وعددًا ممن لهم مصالح مع فرنسا، وعادة ما يكون بعض هؤلاء هم المدعوين للقاء الزائر الفرنسي الكبير، ويقدمون إليه باعتبارهم "المجتمع المدني"! ومؤكد أن بعضهم لا تشغله حكاية الوطنية المصرية، ولا تقلقه مسألة أن يُقال عنهم أصحاب الامتيازات المتمتعين بالحماية الفرنسية، مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر، وبعض من القرن العشرين.. يعني الواحد أو الواحدة منهم يرفعان صوتيهما أمام السلطات المصرية "إحنا حماية فرنسية أو معانا باسبور فرنساوي"! تُرى هل هذا يحدث.. وتُرى هل هذا مقبول.. وتُرى هل هم وحدهم فعلًا المجتمع المدني؟!

الخاطر الثاني، ماذا لو سئل الرئيس الفرنسي: هل تسمح فرنسا ومن باب حقوق الشعوب، التي هي من صميم حقوق الإنسان، بأن يرفع مصريون دعاوى قضائية أمام القضاء الفرنسي، لتعويض مصر عن خسائرها من حملة بونابرت الشهيرة بالحملة الفرنسية.. وعن فواجعها بمئات القتلى "الشهداء"، الذين أخذوا عنوة لخدمة ديليسبس في حفر القناة، التي عادت فوائدها على مالكيها الأجانب ودولهم.. وعن ضحايا عدوان 1956 الذي شاركت فيه فرنسا بقواتها مع بريطانيا والدولة الصهيونية؟!

وهل يمكن للإدارة الفرنسية الحالية، التي تبدي حرصها وغيرتها على حقوق الإنسان "عدة مدونين" في مصر، أن تبادر هي بنفسها وتعلن عن تعويضات لكل الشعوب التي احتلت فرنسا أوطانها، أو هاجمتها، أو استنفدت مواردها وموادها الخام؟!

مجرد خواطر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 31 يناير 2019.

Thursday, 24 January 2019

التشكيل العصابي





امتنعت أن أستخدم لفظ "كتيبة" أو "فصيلة" أو حتى "جماعة"، لأنها ألفاظ ارتبطت بالجيش الذي هو تكوين وطني بالغ السمو في سعيه وفي مبتغاه.. لذلك كان أقرب وصف هو أنهم "تشكيل عصابي" لا يتوانى عن المهمة التي أوكلت إليه أو أوكلها لنفسه، وهي اغتيال شخصية جمال عبد الناصر.. واغتيال كل إنجاز وطني شهدت له البشرية.. ثم أن يكون هذا الاغتيال رسالة موجهة عمدا وبسبق إصرار وترصد للنظام السياسي المصري القائم الآن.. ولأن المجرم- رغم ما يبدو لديه من جسارة- خسيس جبان سرعان عند أول زوج من الصفعات ما يقر بما فعل ويتطوع بالإقرار بما لم يفعل، فإنهم يخشون إرسال رسائل مباشرة لمن يريدون إبلاغه، وإنما أساليب التورية والإسقاط، حيث يؤدي التهجم الإجرامي على ناصر إلى تهجم ضمني على تصدي الجيش للتغيير، ويؤدي التهجم الأكثر إجراما على السد العالي إلى تهجم ضمني على قناة السويس الجديدة، ويؤدي التهجم الفاحش على كل المشروعات العامة والقطاع العام إلى تهجم ضمني على الدور المعاصر للجيش في إنجاز النهضة الجبارة التي نعيشها هذه الأيام.

هو تشكيل عصابي إجرامي له شبكة اتصال قوية لا تعتمد الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو العنكبوتية، بقدر ما تعتمد على توقيتات شفرية معلومة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، يكون التهجم على السد العالي وعلى ناصر في يناير بمناسبة وضع حجر أساس الأول وميلاد الثاني.. ويكون فبراير هو للتهجم على ناصر وعلى الوحدة العربية والقومية كمبدأ، عبر إخفاق الوحدة المصرية – السورية، ويكون مارس هو للتهجم على ناصر وعلى محاولة التصحيح ببيان 30 مارس وهلم جرا، حتى نصل إلى يونيو، فيكون التهجم على ناصر عبر الهزيمة ولطمس الصمود في 9 و10 يونيو وفي يوليو يستمر التهجم عبر إدانة الثورة وتعظيم العهد الملكي والاحتلال إلى آخر المناسبات!

وبعد موجة التهجم في 2018 بمناسبة مئوية ميلاد ناصر، تأتي موجة التهجم في 2019 على السد العالي، فتقرأ في الأهرام.. وبعدها في المصري اليوم وصحف أخرى لأعضاء التشكيل أنفسهم الكلام نفسه الذي بدأ منذ 1971 ولم يتوقف.. أسطوانة مشروخة لا تكف عن الدوران المشخشخ المزعج بأصوات كان بعضها هو نفسه الذي أنشأ قصائد المدح ومقالات العظمة في ناصر والثورة والسد العالي.. أصوات كان منها على سبيل المثال وليس الحصر، إبراهيم الورداني وصالح جودت وجلال كشك وغيرهم، نتمنى لهم الرحمة، ثم توالت أصوات أخرى في أجيال التشكيل نفسه، أتوقف عن ذكر الأسماء حتى لا أحرج الناشر، إلى أن وصلنا لظاهرة التوريث في التشكيل والمهمة، حيث كان أحدهم رئيسا لمجلس إدارة ورئيس تحرير مجلة أسبوعية شهيرة وكان يتباهى بأن المصححين يعكفون على تصحيح مقاله القصير عدة أيام، وتقاعد ليعود في صحيفة قومية توقف النشر له إثر مقال مارس فيه سفالته بتوضيح معنى C.C"" في اللغة الإنجليزية، ثم ها هو سليله يستكمل المهمة أو يكررها بتهجمه غير الموضوعي على السد العالي، دون أن يتوقف لحظة أمام فداحة تأثيرات سد النهضة الأثيوبي على مصر، فيما لو لم تكن بحيرة ناصر موجودة!.. وبعدها بأيام يلتقط كائن فيروسي الخيط فيعيد التهجم في المصري اليوم، إنه تشكيل عصابي منحط ومن ستر الله اللطيف الخبير أنهم نشاز، ثبت أن آذان شعب المحروسة تلفظه من أول شخشخة!

ومع التهجم على السد العالي ومن بناه وعلى كل إيجابيات ثورة يوليو، تظهر فقاعة سامة أخرى في المصري اليوم، تطالب بإلغاء الانتماء العربي لمصر ابتداء من إسقاط وصف العربية عن اسمها.. والمطالبة بإسقاط العلم الوطني الحالي ليستبدل به علم العصر الملكي.. وليكشف التشكيل العصابي عن بقية تكوينه مرحلة بعد مرحلة.. الأمر الذي أعتبره ظاهرة إيجابية، كي تظهر الخلايا النائمة في هذا التكوين.. والعجيب أن من كتب مناديا بإسقاط علم مصر الحالي طبيب أسنان فاشل احترف السياسة ولديه قضايا مالية ومحترف للاقتراض من أصدقائه دون رد.. يعني نصاب محترف!

وبدون أي نزوع للتفسير التآمري، يأتي هذا التهجم على العلم الوطني وعلى انتماء مصر العربي، ليثبت أن أصحابه ليسوا مخالفين للدستور وفقط وإنما هم أيضا يستكملون إرسال الرسالة للنظام الحالي الذي أعطى مفهوما واضحا محددا لعروبة مصر وانتمائها الإقليمي، وحكم هذا المفهوم بالمصلحة المصرية أولا وآخرا.

قبل أن أنتهى، ربما يعن لأحد أن يسأل: هل يحتاج ذلك التشكيل العصابي الإجرامي لهذا العناء في الرد واستهلاك الوقت والمساحة المتاحة للنشر؟ وأجيب من فوري: نعم إنه لا يستحق بحد ذاته.. ولكن خناجره تخترق جسد الوطن، ومن ثم فلا مجال للصمت أو التجاهل.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 24 يناير 2019.