مليون ونصف مليون أرمني

من المؤكد أن الخطأ لا يبرر الخطأ، كما أن الجريمة لا تسوغ جرائم، وأذكر أن حوارًا ساخنًا نشب بين الراحل المتميز الصديق الدكتور أحمد عبد الله رزة وبيني إثر الهجوم على معبد يهودي، في إحدى عواصم أوروبا أثناء الصلاة، التي يشارك فيها أطفال يهود، وهل يسوغ إجرام الصهاينة وقتلهم للفلسطينيين بمن فيهم الأطفال داخل دور العبادة أو في المدارس والشوارع، وقبلها قتلهم لأطفال مصر في مذبحة بحر البقر أن يتوجه السلاح المضاد فلسطينيًا كان أو غير فلسطيني إلى الصهاينة واليهود حتى لو كانوا أطفالاً؟!

كان الحوار ساخنًا، لأن من يذهب لرفض هذا السلوك يجد أسبابًا جوهرية ومنطقية تسند مذهبه، ومن يذهب إلى العكس - أي يؤيد قتلهم - يجد أيضًا ما يدعم مذهبه.. وعادة فإن الإنسان تحت وطأة الألم والإحساس بالظلم والعجز قد يبالغ في مشاعره، لدرجة أنه قد يتمسك وبعنف بأن يشرب الخصم من الكأس نفسها التي أجبر غيره على الشرب منها!

كنت أتصفح كتابًا وجدته على مكتبي، وسألت عمن اشتراه فقيل لي إنه هدية من جمعية القاهرة الخيرية الأرمنية العامة بالقاهرة.. وبالحق فإنه ليس كتابًا عاديًا بل هو من حيث الشكل متوازي مستطيلات، يرتفع عن سطح المكتب سبعة سنتيمترات، ويبلغ عدد صفحاته من القطع 34 سم× 17 سم 1372 صفحة، وكل صفحة مكتظة بسطور متراصة وببنط صغير.. يعني نحن أمام عدة مجلدات انتظمت في غلاف واحد، عنوانه "إبادة الأرمن"، تأليف الدكتور "ريمون كيفوركيان"، الذي عرفه صاحب تقديم الكتاب "برج ترزيان"، الرئيس الفخري للجمعية فقال: "الدكتور ريمون كيفوركيان" حاصل على درجة الدكتوراه في جامعة السوربون paris iv 4 عام 1980 وهو مؤرخ درس في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية بجامعة باريس 8 وإلى جانب ذلك شغل منصب مدير الأبحاث في نفس المعهد، كما شغل منصب أمين عام مكتبة نوباريان، التابعة للاتحاد الخيري الأرمني العام في باريس، وسرد رئيس الجمعية المواقع القيادية والمؤلفات التي تولاها وكتبها المؤلف، وهي جميعها مرموقة.

أما موضوع الكتاب فهو عن "الإبادة الجماعية للأرمن التي اقترفتها حكومة تركيا العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى، أي منذ مائة عام وبلغ عدد ضحاياها مليونًا ونصف مليون أرمني، وكان الدافع الأساسي للإبادة الجماعية هو رغبة قيادات حزب الاتحاد والترقي، التي كانت تستبد بحكم تركيا العثمانية بناء دولة قومية تركية، تستبعد من كيانها الأقليات العرقية غير التركية، وتحقيقًا لهذا الغرض بادرت قيادات حزب الاتحاد والترقي بتنفيذ سياسة ممنهجة للإبادة، واقتادت الأرمن في قوافل موت من وطنهم التاريخي إلى صحاري سوريا وبلاد الرافدين، علاوة على تجريدهم من أملاكهم وأموالهم الثابتة والمنقولة.

أما الناشر للكتاب فهو جمعية القاهرة الأرمنية العامة، التي تأسست في الأصل بالقاهرة عام 1910 كفرع للاتحاد الأرمني الخيري العام، الذي أسسه عام 1906 بالقاهرة بوغوص نوبار باشا، نجل نوبار باشا نوباريان أول رئيس وزراء لمصر 1878-1879.. وتعمل الجمعية في مجالات التعليم والمساعدات الاجتماعية المختلفة في نطاق الطائفة الأرمنية بمصر، وتقوم أيضًا بنشاط ثقافي لإحياء التراث الأرمني من خلال نشر الكتب والنشرات وتنظيم الندوات والمعارض الفنية".. هذا ما اقتبسته من مقدمة رئيس الجمعية، وقد رأيت ضرورة نشره في هذا المقال لأنني واثق أن المعلومات المتوافرة للناس بل وللنخبة أيضًا عن الأرمن وعن المذبحة وعن نشاط الجمعية تكاد تكون معدومة.

ولقد لفت نظري مدى ما اتسم به مؤلف الكتاب من إصرار على محاولة الموضوعية في رصده وتحليله، فقد استطاع حشد ما لا حصر له من المعلومات الموثقة، أما منهجه فهو متميز وجديد إذ لم يفصل العلاقة الجدلية بين المعتدي والمعتدى عليه وهنا يكتب: ".. وقد حاولت في المقام الأول استنطاق الآليات المؤسسية والسياسية والاجتماعية وحتى النفسية، التي بلغت ذروتها في القضاء على الأرمن العثمانيين على وجه الخصوص، سعيت إلى تحديد المراحل المتعاقبة من أصولية دوائر الاتحاد والترقي، وقد أوليت عناية خاصة لعمليات صناعة القرار التي هي ظواهر معقدة إن كانت هناك ثمة ظاهرة بهذا الاسم... هنا - والكلام لا يزال للمؤلف - أضع الجدل حول الأفكار داخل نخبة الاتحاد والترقي وتشكيل أيديولوجية الاتحاد والترقي، ثم ما أعقب من تحول هذه الأيديولوجية إلى الأصولية، أضع هذا الجدل مقابل التطور الموازي للقومية التي عززتها الحركات الثورية الأرمنية تلك النخب سواء عندما كانت معارضة لنظام السلطان عبد الحميد، وفيما بعد عندما أصبحت على رأس الدولة كانوا يناقشون بلا توقف مصير مجتمعهم المشترك، وقد حاولت أن أضع ذلك في الحسبان وأوليت اهتمامًا خاصًا للتشابه المزعج بين النخب الأرمنية وجمعية الاتحاد والترقي، فقد كان كلا الجانبين يرون أنفسهم حاملين لمهمة "مقدسة"، هي إنقاذ "الأمة" وبناء عليه فإن الدراسة الحالية تتحرك جيئة وذهابًا بين اختبارات تطبيقات كل من الجانبين".

والكتاب الذي تجاوز الألف وثلاثمائة صفحة هو من ترجمة الأستاذة سحر توفيق التي صار القارئ يبحث عن إنتاجها المؤلف المترجم، كما يبحث الباحثون عن الزئبق الأحمر، فتحية لها على هذا الجهد الجبار، خاصة أن المرء لا يلحظ انفلات خيط الجدية والتدقيق في ترجمتها، رغم الطول المفرط للنص.. حيث يقع الكتاب في ستة أقسام وخاتمة، وتتوزع الأقسام إلى ما يقرب من ستين فصلاً، وهناك ثبت بالمصادر والمراجع والوثائق إضافة لفهارس مفصلة.

والمتأمل في مذبحة الأرمن، حيث استشهد على يد الأتراك نحو مليون ونصف مليون إنسان يتذكر المآثر - إذا جاز التهكم - العثمانية التركية على مر الأحداث، ذلك أنني شاهدت بعيني فيما كنت في رحلة برية من شمال اليونان "سالونيك" إلى يوغوسلافيا الاتحادية القديمة قبل أن تنفرط إلى دول، وكانت الرحلة بهدف إلقاء سلسلة محاضرات شاركني فيها الصديق الدكتور علي فتال السوري الوحدوي، وقد سبق أن أشرت لما جرى في تلك الرحلة، إلا أنني أتوقف عند الذي شاهدته في مناطق البوسنة والهرسك ابتداءً من البساطة، ولن أقول التخلف السائد بين المسلمين هناك، وإلى ما كانت رؤيته مروعة، حيث قامت عدة جدران في كنائس وقلاع قديمة من مداميك كلها من جماجم الصرب، وليتهم غطوا الجماجم بالمونة "الملاط"، ولكن تركوها واضحة بتجاويف مآقي العيون وبالأسنان المرصوصة بدون شفاه!، وبعد الرحلة بسنين أدركت لماذا كان الصرب بتلك الضراوة في محاربة البوسنيين، وعندها أيضًا تذكرت الرواية الفذة التي كتبها إيفو أندرتش بعنوان "جسر على نهر درينا"، وترجمها الرائع الجليل سامي الدروبي وفيها رصد لأحداث الفزع المروع الذي انتاب سكان المنطقة من سلوكيات السفاحين الأتراك الغزاة، وكيف أن الأحجار على النهر بكت من مشهد إعدام قائد المقاومة الصربية بخوزقته على خازوق تركي!

ثم يستدعي المرء الغزو العثماني للشام ومصر، ورغم أن المجازر لم توثق بالتفاصيل الدقيقة كما وقعت مع الأرمن ومن قبلهم الصرب، إلا أن الذهن البشري قادر على ملء "فراغات النص"، إذا كان ما هو معلوم منه كافيًا لتوقع ما حذف أو سقط.

إن لنا أن نتخيل فقط حجم الضحايا في الأوقات التي قرر الغزاة القادمون مع سليم الأول أن يجرفوا الشام ومصر من طوائف الحرف، خاصة الأسطوات والمعلمين والعمال المهرة وبالألوف.. يعني بنائين ونجارين وحدادين وخيامية وسروجية ونحاسين وصياغا - أهل الصاغة - وجزمجية وخياطين وبيطرية وعطارين إلى آخر الحرف، كلهم أخذوا إلى الأناضول للعمل بالإجبار في الدولة العثمانية.. ولابد - وبالعقل - كانت هناك مقاومة ومحاولات هروب ووجهت بالعنف التركي المعلوم.. ناهيك عن الضحايا في ميادين القتال وما حول تلك الميادين ثم الضحايا أثناء خط سير الجيش الغازي، الذي هو محترف للعنف وإراقة الدم منذ جاء أجدادهم من آسيا الوسطى واكتسحوا ما في طريقهم حتى استقروا في الأناضول! إنها العقلية العثمانلية التركية التي تركت بصماتها في مناطق أخرى.. وما يجري في صعيد مصر تجاه المواطنين المصريين المسيحيين من محاولات للإقصاء والتهجير إلا صورة مصغرة من الموروث العثمانلي!

                             

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 سبتمبر 2016.

برنامج من ماسبيرو - القناة الاولى حلقة يوم السبت 10/9/2016

Toward an Egyptian cultural renaissance

Before going into today’s issue; that is the necessity to have an initiative launched by intellectuals to establish a movement to revive the Egyptian culture and which goes in the same context with what I wrote two weeks ago… I find myself facing a real, yet funny, dilemma… as many of my village residents and others in nearby villages and also many of my acquaintances think that since I write regularly in important newspapers and I’m an almost regular guest at the Egyptian TV and some satellite channels’ talk shows… and since I adopt a political and cultural discourse that is pro-June 30 revolution and president Sis… and I always value and feel grateful for the role of the Egyptian army in our current critical time… they think that means I’m a very important public figure who has many powerful connections enabling him to appoint a young man or woman in a job or get someone treated in a certain hospital for free… in general, they believe I can solve whatever problem and that my requests to officials in charge will be responded to immediately since I adopt such a loyal supporting stance to the ruling regime.

People in general look for anyone who can help them find solutions for their personal or collective problems… but they cannot believe that I, and many others, are not even invited to the president’s meetings with intellectuals, journalists and others… we even don’t know who are being invited and on what basis those invited are chosen.

What I do know is that if this invitation is coming from an official entity like the ministry of culture and its minister, I will never ever be invited… and reasons are many… most importantly because the minister do not like many of those who used to know him closely in the past… however, such disregard have and will never dissuade us away from the uncompromising stances we had and still believe in… as it’s a matter of nation’s fate and coming generations’ future… I believe one shall always do his best until the last moment, otherwise, he deserves not to be human… I just wish that our folks can excuse us if we couldn’t help them.

As to today’s issue, it has to do with what I have already written about before in my article titled “Sisi and history”… as I called upon the president to open our country’s institutions for the Arab scientists and intellectuals coming from Iraq, Syria, Palestine and Libya and that this shall help us establish an Egyptian cultural renaissance.

As it was proved that awareness is raised by culture side by side with – if not prior to – the economic and social circumstances… we can establish mega projects in more than one field, however, all these projects are prone to failure if those working in such projects are not fully aware of the nations’ priorities and future necessities… moreover, we can say that any pretender – especially those who believe that religion is in contrast with science and progress – can destroy people’s awareness by spreading a false Fatwa claiming to have a religious reference from a sacred verse.

It was also proved that the employees – especially those working in the field of culture – however high positions they have including the minister himself, they cannot establish an Egyptian cultural renaissance with clear targets and that is scheduled on phases… this mission shall be assigned to national intellectuals of all groups, ideologies and specializations.

Now, those who have known and dealt with hundreds of intellectuals have the right to inquire: why have we failed in establishing a comprehensive cultural renaissance movement which we can distribute tasks and roles and bear responsibility toward renovating out-of-time cultural concepts and changing them if necessary?... why don’t we adopt the theory of quantitative accumulation in our cultural life?

What I want to say here is that Egypt have witnessed many attempts of comprehensive cultural renaissances since the end of the 18^th century… but those attempts looked like waves that soon crashed once they hit the shore of our social structure… meaning since the attempts of Hassan el-Attar, Rifa'a al-Tahtawi… and later came Muhammed Abdo and those who followed him… and reaching to that wave of the sixties when we had dreams of having statues overlooking water canals of the Nile River and of having a theater in every hamlet.

We still remember the strong campaign that stood in the face of the muslim brotherhood culture minster… and how such large gathering of resilient intellectuals and artists led to total change… but again, everything came back as if nothing happened, even with the current minister, who was known to belong to the progressive forces as he used to declare when he was a journalist… and maybe the reason is what my late friend and great satirist Mahmoud es-Sa’adani used to say in his writings: “but… everything later changed…”… that journalist, now a minister, changed after he experienced the high positions starting from journalistic editing management, to agencies management and finally made it to be a minister…

Back to our point, I believe we should start first by bridging the gaps between renaissance eras… to finally have a continuous graphical line with ups and down and not distant separated dwarfed lines representing our cultural movement.

Those groups claiming to have religious reference – like muslim brotherhood, salafists and their likes – are the only winners of our current alarming cultural tardiness and the chaotic situation of intellectuals… it’s the perfect environment for their twisted ideas to thrive and fill the space left.

We shall continue later.

Translated into English by: Dalia Elnaggar

This article was published in Al Ahram newspaper on September 15, 2016.

To see the original article, go to:

http://ahmadelgammal.blogspot.com.eg/2016/09/blog-post_53.html

#alahram #ahmed_elgammal #Egypt #culture #cultural_renaissance

نحو إحياء ثقافي مصري

قبل أن أدخل في موضوع اليوم، وهو أهمية وجود مبادرة من مثقفين لتأسيس حركة إحياء ثقافي مصري، وهذا متمم لما كتبت عنه في مقال الأسبوع قبل الماضي، فإنني لا أخفي الحرج المضحك الذي يجد المرء نفسه واقعًا فيه دون عمد منه! ذلك أن كثيرين من أهل قريتي وقرى أخرى مجاورة وعديد من المعارف يظنون أن مجرد الكتابة المنتظمة في صحف مهمة، والظهور شبه المنتظم في التليفزيون المصري وبعض الفضائيات، وبخطاب ثقافي وسياسي مؤيد لثلاثين يونيو ومناصر للرئيس السيسي ومثمن وممتن لدور الجيش المصري؛ هي أمور تشير إلى أن صاحبها له حظوة ما في الدوائر الرسمية، وأنه إذا طلب إليه طلب بتوظيف شاب أو شابة، وعلاج مريض، وحل مشكلة تواجه الناس، فإنه سيستجاب له على الفور، وإلا لماذا هذا الموقف الذي لا بد وأنه مرتبط بمكانة ما! والناس عموما في عرض أي أحد يساعدهم على حل مشاكلهم الذاتية أو الجماعية، ويتعشمون في من يظنون أنه "طايل" ولا يصدقون مثلا أن العبد لله وكثيرين مثله لا نُدعى حتى إلى لقاءات الرئاسة بالمثقفين والصحفيين وغيرهم، بل إننا لا نعلم من الذي يوجه الدعوة وعلى أي أساس، وما أعلمه عن نفسي فإن الدعوة لو كانت تأتي من جهة رسمية كوزارة الثقافة ووزيرها، فإنني لن أُدعى حتى إن صعد الحمار الأسود على المئذنة.. يعني سابع المستحيلات، والأسباب كثيرة أهمها عدم الاستلطاف الذي يكنه السيد الوزير لعديدين ممن عرفوه عن قرب! ومع ذلك فإن هذا التجاهل لم ولن يثني أصحاب المواقف المبدئية عن مواصلة ما يتصدون له أو يدعون إليه، فالأمر أمر وطن ومستقبل أجيال وإذا لم يغرس المرء نبتته- حتى إن كانت القيامة تقوم- فإنه لا يستحق أن يكون إنسانا، وليت أهلنا الذين يتعشمون فينا أن نساعدهم عند الدوائر الرسمية أن يتلمسوا لنا الأعذار!

أما موضوعي اليوم فيتصل بما سبق وكتبته تحت عنوان "السيسي وأبواب التاريخ"، وناشدت السيد الرئيس أن تستضيف مصر العلماء والأدباء الذين ضاقت بهم الأرض في العراق وسوريا وفلسطين وليبيا، وأن ذلك يجب ان يتصل بإحياء ثقافي مصري.

لقد ثبت أن الوعي تصنعه الثقافة جنبا إلى جنب- إن لم تسبق- الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وأنه من الوارد أن نقيم مشروعات ضخمة في أكثر من مجال ولكنها تبقى مهددة بالفشل ما لم يكن وعي العاملين فيها والمشرفين عليها عميقًا بما فيه الكفاية، ملمًا بمقتضيات مصالح الوطن وآفاق حاضره ومستقبله.. بل إنه يمكن لأي مدّعٍ- خاصة ممن يضعون الدين في تناقض مع العلم والتقدم- أن يدمر وعي الناس بفتوى مصطنعة تزعم الاستناد إلى نص مقدس!

ولقد ثبت أن الموظفين، خاصة في مجال الثقافة، مهما علت درجاتهم بمن في ذلك الوزير.. لا يمكن أن يؤسسوا لإحياء ثقافي مصري واضح المعالم محدد المراحل، ولذلك فإن العبء ملقى على عاتق الجماعة الثقافية الوطنية من مختلف المشارب والتوجهات والتخصصات.. وهنا يحق لمن عرفوا وخالطوا مئات المثقفين أن يتساءلوا: لماذا نفشل في بناء حركة إحياء ثقافي شامل نقسم فيها المهام والأدوار ونتحمل المسؤولية في تجديد المضامين الثقافية المتهرئة وتغييرها إذا لزم الأمر.. ثم لماذا لا يفعل قانون التراكم الكمي فعله في حياتنا الثقافية والسائد هو التمزق والانقطاع؟!

وما أقصده هو أن مصر عاشت محاولات للإحياء الثقافي الشامل منذ أواخر القرن الثامن عشر، وكأنها كانت موجات تتبدد بمجرد الارتطام بشاطئ البناء الاجتماعي.. أي منذ محاولات حسن العطار ورفاعة، ثم محمد عبده وما تلاه إلى أن نصل إلى موجة الستينيات التي حلمنا فيها بتماثيل على الترعة ومسرح في كل جرن؟!

إننا نتذكر الحركة القوية التي التأم شملها في مواجهة وزير الثقافة الإخوانجي، وكيف أدى الحضور المكثف للمثقفين والفنانين والإصرار على الصمود إلى تغيير المعادلة، ثم عدنا وكأن شيئا لم يكن، رغم أن وزيرا كالوزير الحالي محسوب على قوى التقدم بحكم ما كان يعلنه ويعرفه عنه الفرقاء عندما كان صحفيا يرتاد حديقة نقابة الصحفيين؟! وربما كان المفتاح هو ما كان يردده عمنا الساخر الكبير محمود السعدني الذي كان يصيح في كتابته: "ولكن.. سبحانك ربي مغير الأحوال...".. تغير حال الأستاذ الصحفي عندما رأى جزرة المناصب تلعلع أمام ناظريه، ابتداء من الإدارة الصحفية، إلى إدارة الهيئات، ومن بعدها الوزارة! وربما لو ابتلينا بما ابتلي به غيرنا لصرنا أسوأ مما هم عليه، ولذلك فالحمد لله على نعمة البعد عن المناصب التي يبدو أنها جاءت اشتقاقا من "النصب"! وما علينا، ولنعد إلى موضوع الإحياء الثقافي الذي أعتقد أن الشروع فيه يجب أن يبدأ بردم الفجوات بين مراحل الإحياء.. لتصير خطا بيانيا متصلا فيه صعود وهبوط وليس خطوطا قزمية منفصلة متباعدة!

إن من مصلحة القوى التي تزعم لنفسها مرجعيات دينية- كالإخوان والسلفيين وغيرهما- أن يستمر تمزق النسيج الثقافي المصري وتشرذم مثقفيه واقتتالهم، لأنه الضمان الوحيد لهم لكي يملؤوا الفراغ بترهاتهم التي ثبت أنها تتحول إلى زاد للناس يلوكونه لأن فيه الظن بالخلاص الدنيوي، حيث يكفل الخلاص الأخروي.. وللحديث صلة.

                         

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 15 سبتمبر 2016.

عيد من نوع خاص

منذ فترة أواصل الاطلاع على جوانب مختلفة في تكوين ومسار الدولة الصهيونية، وكلما أوغلت وانتقلت مما هو انطباعي سريع إلى ما هو مفصل ودقيق أدركت أن الاعتماد على المعلومة الانطباعية السريعة خطر.

ومن الأمور التي أوغل في معرفتها ما يتصل بدور الجيش في الاقتصاد الإسرائيلي تحديدًا؛ وسأكتب وجهة نظري وفق ما سأفهمه في مقال لاحق إن شاء الله؛ لأن موجة الهستيريا المشتعلة الآن في مصر ضد دور الجيش المصري في الاقتصاد والخدمات تستوجب فتح مناقشة أكثر عمقا وأكثر احتراما للعقل.. بعدما ساد الإسفاف والتهكم المزري بأصحابه قبل أن يكون مزريا للعقل والحقيقة.

ولأننا ما زلنا في ثالث أيام العيد، ومعظم الناس في إجازة فلا بأس من تخفيف ينتقل من جهامة السياسة إلى رحابة مجالات أخرى!

في عمق الذاكرة ما زالت وقائع العيد في القرية حية كأنها الأمس القريب.. ربما لأنه يقال إن المرء مع تقدم العمر يتذكر التفاصيل البعيدة القديمة بحذافيرها فيما ينسى ماذا أفطر اليوم أو إذا كان قد تعاطى دواءه أم لا!

كان لدينا جحش شديد الخبث.. كأنه كما كانت تصفه جدتي بني آدم سخطوه حمارا.. فهو يجري بخطى سريعة إذا كان عائدا للدار التي يعرف الطريق إليها من كل اتجاه دون أن يوجهه أحد.. وهو بطيء متكاسل إذا كان متجها للغيط أو لمشوار آخر، وما زلت أذكر كيف أفسد علينا أنا واثنين من أقربائي فرحة الإفلات ضحى العيد من تسلط الكبار وطلباتهم.. ذلك أننا اقتنصنا بعض هبر اللحم فوق أنجر فتة واختلسنا الشاي والسكر والقوالح- قلب كيزان الذرة بدون حبوب- لزوم راكية النار، وطبعا البراد والأكواب الصاج الكالحة، وفي مقطف حملنا كل ذلك ثم امتطينا ظهر صاحبنا الذي يبدو أنه كان يعرف أن اليوم عطلة بسبب العيد.. ووضعنا البردعة وقفزنا على ظهره ومعنا المقطف بحمولته الثمينة.. ومضى صاحبنا متباطئا مدلدل الأذنين يقدم ساقين ويؤخر، وانعطفنا على الطريق الملاصق للمصرف الواسع الذي يمر عبر حقول القرية قادما من كفر الزيات متجها لأقصى الشمال بمياهه الداكنة التي تعلوها الرغاوي الرمادية وتفوح منها رائحة كل ما ألقي فيها من فضلات صرف زراعي وصرف مجاري وصرف كيماوي من المصانع.. ومضى الجحش كعادة الحمير ماشيا على حافة الحافة، ثم فجأة انكفأ بمقدمته باتجاه الأرض وإذا بالثلاثة والمقطف بما فيه نتدحرج إلى المياه الملوثة ولم ينقذنا إلا التشبث بشجيرات البرنوف النامية شيطانيا على انحدار الجسر!

وتركنا صاحبنا، ونهض بسرعة واتجه ركضا بأقصى قوته عائدا إلى الدار! وكانت مأساة أن نعود ثانية وقد فقدنا الزاد وعدة الشاي- البراد والأكواب- التي ظلوا يبحثون عنها دون فائدة، وكأن عفريتا خطفها!

وفي العيد ذات سنة علا الصياح بالقرب من الدار، وخرج من خرج لاستطلاع ما يجرى صباحية العيد، وإذا بسيدي- جدي عم أبي- وكان الوحيد في القرية الذي يفهم في قياس الأرض ومساحات المباني وهندستها، والسواقي الكبيرة وتأسيسها ثم إنشائها بدقة لتأخذ المياه من الترعة وترفعها، وكان أيضا له سجل تاريخي في حب الحياة، إذ كان في القرية خلال الثلاثينيات محل لبيع المشروبات الروحية- الكحولية- وكان شريكه فيه أحد الذين يزعمون شرف الانتساب للشرفاء، وكانت صناديق النبيذ والأوزو تأتي من اليونان مكتوبا عليها اسم ذلك الجد وذلك الرجل!

في ذلك الصباح احتدم الخلاف داخل دارهم حول موعد ذبح الذبيحة وطريقة توزيعها، ولما حسم الأمر وبدءوا في الطهي طرق بابهم ضيوف من زملاء ابنهم الكبير، واستقبلوا ودخل الشاي ثم صفق الابن طالبا كبريتا لإشعال السجائر، وسلقط في ملقط لم يوجد في الدار كلها كبريت، وللخروج من المأزق أحضرت الأم صحنا من الصيني السكسوني المحترم ووضعت عليه بعض الجمرات المشتعلة التي التقطتها من الكانون، ووضعت الصحن بالجمرات على صينية وأمرت بإدخالها للأفندي وأصحابه.. وبعد قليل خرج الضيوف ليعود الابن هائجا صارخا محتجا على الفضيحة.. فضيحة عدم وجود كبريت، وبدأ يطارد ذكور البط الضخمة المرباة في وسط الدار ويقبض على رقبة دكر البط ثم يفطسه في بئر المياه المحفورة- حسب ما كان سائدا آنذاك- في كل دار كبيرة ويصيح: "لو كنتم بعتم ده.. مش كنتم معاكم فلوس تجيبوا كبريت"؟!

ولم يستطع أحد إيقافه عند حده حتى هدأ بعد أن فطست عدة ذكور بط! عندها خرج الجد من الدار مرتديا قميصا قصيرا من الدمور، وجلس أمام باب الدار يستنزل اللعنات على الدار وعلى من فيها وعلى نفسه: "اللهم اجعله عيد أسود عليّ وعليهم يا رب"! وفيما هو يرفع عقيرته ويديه باستنزال اللعنة، كان كلبهم المحبوس فوق السطوح يجري بمحاذاة السور العلوي المرصوص عليه طواجن مزروعة بنبات الصبار، وينبح ليخيف كلبا آخر كان يمشي بجوار الدار، وفيما الكلب يجري وينبح وجدي مستمر فيما هو فيه ارتطم الكلب بطاجن فخاري كبير مملوء بالتربة والصبار ليهوي على رأس الجد في اللحظة ذاتها التي استنزل فيها اللعنات.. وعندها، وفيما دمه يسيل توجه برأسه وعينيه للسماء وقال: اشمعني هذه التي تمت الاستجابة لها.. ما أنا بقي لي سنين أدعو بالرزق وفك الضنك؟!

كنا نخرج إلى "العيد".. هكذا كنا نسمي الساحة الواسعة التي تنصب فيها "المراجيح" و"الزقازيق"- عبارة عن آلة تدور بأذرعها المعلقة فيها صناديق خشبية- وفيها يقف العتال، وكان ضخم الجثة خفيف الظل ليبيع بالوظة ملونة- نشا معجون بسكر ولون صناعي بمبي أو أحمر- ويضعها في قطع من كسر الفخار.. المهم أن تكون "الشقفة" مقعرة قليلا تحمل عدة ملاعق من الصنف.. وإلى جواره من يقلون الفلافل ويبيعون الحلاوة الطحينية.. وكم من نوبات إسهال غير معلومة المصدر ضربتنا دون أن يفطن أحد إلى بالوظة العتال!

ثم كان المشهد المتكرر في المساحة التي تذبح فيها البهائم سواء في العيد أو غيره، إذ يتوالى وضع بعض الأطفال المصابين بشلل الأطفال داخل الروث بمجرد فتح كرش البهيمة، فيما البخار يتصاعد دليلا على سخونة الروث، ظنا أنه يتممم شفاء المصاب.. وكانت الكارثة الكبرى وهي البحث عن حمار أسود غطيس للحصول على روثه "الفِشْل"- فاء مكسورة وشين ساكنة- الساخن هو الآخر بمجرد نزوله من مؤخرة الحمار لوضعه على عين الطفل المصاب بالرمد وكم منهم فقد بصره!

انطوت الصفحة!

                       

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 سبتمبر 2016.

Chechnya trap

Again I call upon our Egypt to open its scientific, research and cultural institutions for Arab scientists, researchers and intellectuals of the Arab countries hit by our present time savage Tatar invasion… and for president Sisi to take this move to be remembered in history for what he did for his country and whole nation… I have already written about how history events sometimes repeat themselves and I gave an example of the Tatars’ invasion to Persia, Iraq and the Levant… today, I continue tackling another point that gives us the impression we do live in past times.

Before going further, I’d like to mention two things; the first is that all attempts to ruin the Egyptian-Saudi relations do not and seems that they will not cease to stop… as it was proved for everyone that Egypt’s resilience in our current hardship and our efforts to overcome it is based on the will of its people, army and leadership… it’s also based on the clear role played by our Arab brothers in Saudi Arabia and Emirates.

That’s why those who aim at nailing Egypt want to break its people’s will through siege, rumors, terrorism and others… they want to undermine the Egyptian-Arabian relations, especially with Saudi Arabia and Emirates… not only this, but its international relations as well like what happened with Russia and later Italy.

The second is I’d like to pay tribute to Ambassador Ahmed El-Qattan, ambassador of the Kingdom of Saudi Arabia, its permanent representative in the Arab league and dean of Arab diplomats, who is never tired of strengthening the mutual relations between the two countries and standing against all attempts – which are many indeed – to ruin those relations.

The man’s activities are not limited to mass media only in those two perspectives… but he practically works to conduct broad responsible serious dialogue with Egyptian intellectuals belonging to different thought ideologies and political schools without constraints… and I can say that the man is never bored of any objective criticism whatever it was and is only bored, like any normal person, of what is unreal or biased.

The history events’ repetition I talk about here has to do with the Egyptian-Saudi relations after those who love to fish in troubled waters have thought that what happened in Chechnya will ruin the mutual relations and do what other hardships didn’t do in the past.

They said that the Grand Imam of al-Azhar has denied that “Wahhabism” and “Salafism” belong to the balanced ideology of Islam… and in doing so, he meant to question other people’s faith… to the rest of nonsense talk they said… as if the nation had come back to long-time-in-history past eras which we are supposed to have overcome centuries ago… the right question here in this regard: does Islam need – after 15 centuries since the start of Dawaa – to have a group of people who grant “indulgences” or decide the true meaning of faith?

Are we about to repeat what other non-Islamic religious institutions have been through when they were separated by dispute and fighting for long centuries and so they had to hold ecumenical councils?

Let us revise the history of those ecumenical councils in the history of the international church as eight eastern councils in addition to 13 western ones were held.

First, the council is a meeting including the Pope and bishops to discuss matters of the faith, respond to heresies and take a stance towards atheists… such councils date back to the time of prophets as the first one was held in Jerusalem in 49 A D regarding bringing atheists to faith… a second one was held in 175 A D… afterwards, came the first eastern council; the First Council of Nicaea in 325 A D to discuss the teachings of Arius and take a stance towards it… followed that the First Council of the Constantinople in 381 A D to discuss the issue of Holy Spirit… after this came The First Council of Ephesus in 431 A D, then the Second Council of Ephesus in 449…etc.

I’m not about to discuss those councils; what happened, resulted and came out of them… rather, I’m about to discuss whether Muslims need similar councils like those old ones these days… I wish they look like the good ones of them which led to the unity of faith and worship, but actually they led to disband and mutual distrust in faith.

We are working hard to prove the reality that we actually live in the 15^th A D century and not the Hijri one… and sometimes we strive desperately to prove that we still live at the beginning and middle of the Middle Ages when religious conflicts thrived, atheist groups came to light and fight between secular power represented by the emperor and religious one represented by the Pope arose… each one of them along with their aides standing behind worked hard to prove he was the one worthy of jurisdiction over society… to the extent that – I wrote about this long time ago in the same space here – one of the Popes; Boniface VIII has issued a papal edict that - since he is the one sitting on the chair of Saint Peter - he is the only and most eligible one to be at the head of the state.

In that conference of Chechnya, some talked about the balanced ideology of Islam and its true teachings… while some gave examples of some doctrines and Fiqh schools as models of those concepts… and I don’t think that it would have occurred for a knowledgeable and cultured man like the Grand Imam of al-Azhar that he is the one possessing “faith indulgences” and “certificates of Islam”.

When he said that people of Hadith are models of those concepts, he didn’t deny anyone’s faith… and even if it happened and he accidentally forgot, it’s not more that a seminar holding a dialogue… and not an ecumenical council issuing decisions that later turn into faith doctrines completing what came in the Holy Bible.

The Grand Imam of al-Azhar is just like anyone of those sitting at the top of Islamic religious institutions in Saudi Arabia and other places… they are all not exempted of wrong and definitely they are not sacred… actually, they do right and they make mistakes as well… their words are not sacred… and so are those conferences of meetings; they are nothing but gatherings to discuss common issues and problems and find ways for the nation to go out of it… nothing more.

Finally, what lies between Egypt and the kingdom exceeds any religious dispute here or there… what’s between them is not based on the unity of faith alone but rather historical, cultural, economic and strategic relations that have to do with the composition of both countries’ peoples lie… so those who love to fish in troubled waters shall look for other places to fish.

Translated into English by: Dalia Elnaggar

This article was published in Al Ahram newspaper on September 8, 2016.

To see the original article, go to:

http://ahmadelgammal.blogspot.com.eg/2016/09/blog-post_85.html

#alahram #ahmed_elgammal

إسفين الشيشان!

أجدد النداء لأم الدنيا أن تفتح مؤسساتها العلمية والبحثية والثقافية أبوابها للعلماء والباحثين والمثقفين العرب أبناء الأقطار العربية التي ضربها الإعصار الهمجي التتري المعاصر، وأن يدخل الرئيس السيسي كل أبواب التاريخ بهذه الخطوة المتممة لما يقدمه بإخلاص لوطنه وأمته، وإذا كنت قد كتبت عن كيف تعيد أحداث التاريخ نفسها أحيانًا، وضربت مثلًا بهجوم التتار على فارس والعراق والشام، فإنني أستكمل اليوم بلقطة أخرى توحي وكأننا نعيش فعلًا في أزمنة غابرة، حتى إن اتصلت تفاصيلها بآخرين.

وقبل أن أستطرد فإنني أستأذنكم في أمرين، أولهما هو أن محاولات تخريب العلاقات المصرية- السعودية لم تهدأ، ويبدو أنها لن تهدأ، إذ ثبت للقاصي والداني أن صمود مصر في المحنة وسعيها للخروج منها يرتكز على شعبها وجيشها وقيادتها، ويرتكز أيضًا على الدور الواضح للأشقاء العرب في السعودية والإمارات، ولذلك فإن الذين يهدفون لكسر مصر وتركيعها يتجهون لضرب إرادة شعبها بالحصار والشائعات والإرهاب وغيره، ويتجهون أيضًا لتقويض العلاقات المصرية- العربية، خاصة مع السعودية والإمارات، بل وعلاقاتها الدولية كذلك مثلما حدث مع روسيا ومن بعدها إيطاليا.

أما الأمر الثاني فهو تحية تقدير للسفير أحمد قطان، سفير المملكة العربية السعودية، ومندوبها الدائم في الجامعة العربية، وعميد السلك الدبلوماسي العربي، الذي لا يمل ولا يكل عن تمتين أواصر العلاقة بين البلدين من جانب، ومن جانب آخر عن التصدي لكل محاولات تخريب العلاقة، وما أكثرها من محاولات، ولا يكتفي الرجل بوسائل الإعلام في هذين الشأنين، بل يسعى عمليًا للحوار الجاد المسؤول والواسع ودون أي قيود مع النخبة المصرية من مختلف الاتجاهات الفكرية والمشارب السياسية، وأستطيع أن أجزم بأن الرجل لا يضيق بالنقد الموضوعي أيا كان سقفه ويضيق مثل بقية البشر الأسوياء مما هو غير حقيقي وغير موضوعي.

ثم إن التكرار التاريخي الذي أتحدث عنه في هذه السطور يمس العلاقات المصرية- السعودية بعدما تعمد محترفو الاصطياد التقاط ما جرى في الشيشان وتصورا أنه الإسفين القوي الذي سيفعل ما لم تفعله أسافين سابقة!

قالوا إن الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخرج "الوهابية" و"السلفية" من زمرة الإسلام الوسطي الصحيح، وبذلك فهو يطعن في عقيدة الآخرين.. إلى آخر الهراء الذي اخترعوه، وكأن الأمة انتكست إلى مراحل تجاوزتها من زمن بعيد، وتجاوزتها أمم أخرى منذ أزمان أبعد! ذلك أن السؤال الوارد في هذا المقام هو: هل يحتاج الإسلام بعد خمسة عشر قرنا من بداية الدعوة إلى خلق فئة بيدها قرارات "القطع والحرمان" و"الغفران" وتحديد فحوى الإيمان؟!

وهل نحن بصدد إعادة ما جرى في مسيرة تاريخ مؤسسات دينية غير إسلامية سادها الخلاف والشقاق والاحتراب قرونًا طويلة فاضطرت لعقد مجامع عالمية "مسكونية"؟!

تعالوا ننظر تاريخ تلك المجامع المسكونية في مسيرة الكنيسة العالمية، حيث انعقدت ثمانية مجامع شرقية وانعقد ثلاثة عشر مجمعًا غربيًا.

والمجمع لقاء يضم البابا والأساقفة لبحث شؤون العقيدة والرد على الهرطقات وتحديد موقف من المهرطقين. وقد بدأ تاريخها في عهد الرسل، حيث كان أول مجمع في أورشليم عام 49 ميلادية بخصوص اهتداء الوثنيين، ثم مجمع ثانٍ عام 175، وبعدها جاء المجمع الشرقي الأول وهو مجمع نيقيا المسكوني الأولى عام 325 ميلادية لمناقشة تعاليم أريوس وتحديد موقف منها، وتلاه مجمع القسطنطينية الأول عام 381 ميلادية لمسألة انبثاق الروح القدس، وبعدها جاء مجمع أفسس الأول عام 431 ثم أفسس الثاني عام 449. إلى آخره، ولست بصدد مناقشة تلك المجامع؛ أي ما دار فيها وما ترتب عليها وما أدت إليه وغيره، بقدر ما أنا بصدد مناقشة مدى احتياج المسلمين الآن لما يشبه تلك المجامع، وليته يشبه الصحيح منها الذي أدى لوحدة الاعتقاد وسلامة التعبد، ولكنه كما نشاهد الآن أدى إلى التمزق والتشكيك المتبادل في الاعتقاد!

إننا مستميتون في إثبات حقيقة أننا نعيش فعليًا في القرن الخامس عشر الميلادي وليس الهجري، وأحيانا نستميت في إثبات أننا نعيش بداية العصور الوسطى ووسطها، عندما ارتفع لهيب الصراعات الدينية وظهرت الانشقاقات والفرق المهرطقة، واحتدم الاحتراب بين السلطتين الزمنية ممثلة في الإمبراطور والدينية ممثلة في البابا، وصار كل واحد وفريقه من خلفه يسعى لإثبات أنه الأحق بالولاية على المجتمع، حتى وصل الحال- كما كتبت منذ زمن في هذه الصفحة- بأحد البابوات وهو بونيفاس الثامن أن يصدر إعلانًا بابويًا بأنه- وبحكم جلوسه على كرسي القديس بطرس- هو الأحق وهو الوحيد الذي يجب ان يكون رأس الدولة!

مؤتمر في الشيشان تحدث فيه من تحدث عن اعتدال الإسلام ووسطيته وقيمه الصحيحة، وضرب البعض مثلا ببعض المذاهب والاتجاهات الفقهية كنماذج لتلك المضامين، ولا أظن أنه ورد في ذهن رجل عالم بقامة شيخ الأزهر وثقافته أنه هو الذي بيده منح صكوك الإيمان وشهادات الإسلام، وعندما قال إن أهل الحديث هم من تلك النماذج فإنه بذلك لم يسقط أحدا، وحتى وبفرض السهو أو بفرض سوق الأمور على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر فإن الأمر لا يعدو ندوة دار فيها حوار، وليست مجمعا مسكونيا تتحول قراراته إلى ما يصبح مرجعية عقيدية متممة لما جاء في الكتاب المقدس.

إن شيخ الأزهر مثله مثل السادة الأجلاء ممن هم على رأس مؤسسات دينية إسلامية في السعودية وغيرها ليسوا معصومين وليسوا مقدسين، وإنما يصيبون ويخطئون، وكلامهم ليس نصوصًا لا يأتيها الباطل، وكذلك تلك المؤتمرات أو اللقاءات مجرد اجتماع لمناقشة الهموم والمشاكل وتلمس سبل خروج الأمة من غمة ما أصابها وليس أكثر.

أخيرًا إن ما بين مصر وبين المملكة يتجاوز خلافًا فقهيًا هنا أو هناك، لأن ما بينهما ليس مبنيًا على وحدة العقيدة الدينية وحدها وفقط، وإنما هو علاقات تاريخية وثقافية واقتصادية واستراتيجية تتصل بالوجود العضوي لشعبي البلدين، وعلى محترفي الاصطياد هواة الانكفاء في الطين أن يلعبوا غيرها.

                              

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 8 سبتمبر 2016.

The Technion… and Hebrew University

I’m not against those who take the Zionist state as a role model to follow by anyone seeking progress… and who always make use of any chance to bring experts from there… believing that hard efforts should be exerted to make use of such expertise… It’s even said that some had already brought experts from there and decided to make use and profits by hiring their experiences to others through them…

Also, I’m not against those who unleash their sharp tongues against anyone who tries to open history books and recall the bloody phases of the Zionist movement… even after turning into a state, the Zionist state didn’t cease to practice the bloody violence and break international laws and commons…

What I want to say and debate over is that why don’t we witness any serious attempt by those Zionist experiment’s worshippers to take it as a role model in building the society and reinforcing the state?

Of course, it would be downright ridiculous if I asked those admirers of the Zionist state to start by holding a conference like Basel Conference and ask the great powerful countries to recognize them as an Egyptian Zionist movement… then, they shall shift to another phase; that is forming armed group gangs like “Stern gang” or “Irgun gang” or any other paramilitary groups that stood against the “occupying” Palestinian existence over Israel “historic land”... Then, they can wage a “liberation” war like that of 1948…etc… flouting all the laws, conventions and agreements only for the sake of Egypt they aspire to be like “Israel”… Yes, indeed… that would be utterly downright ridiculous and out of time or place!

The point I want to question about here is that why do they use Zionist experts and models in increasing capital profits in fields like agriculture, agricultural genetic engineering, some irrigation systems and maybe some extraction activities, while they don’t take the Zionist model as an example in two other sides; first is education and scientific research and second is society cohesion and removing obstacles before people coming from different societies and cultures to live in one place; the Zionist state… and for the purpose of achieving a single goal; a strong state absolutely superior over its neighbors in the region?

I have already written few months before about capitalist models that helped contribute to the progress of humankind… and others contributed to the establishment and balance of a certain society… for the first type, I gave an example of Medici Family… and I pointed to the role of the great prince Lorenzo and I talked about the beginning of the great European renaissance starting from Tuscany and Florence… and how Lorenzo declared it publicly that he wouldn’t hesitate to sell all furniture of the Medici family houses to complete building libraries and supplying them with books in Tuscany and Florence…

I also gave another example for the second case; the Rothschild family… which its founder had five children whom he distributed over Germany, France, Holland, Belgium and Italy… one of the Rothschild family offspring was James de Rothschild, father of the Zionist settlements who donated millions of Sterling pounds to bring Jewish migrants to Israel and settle them in and provided all that is needed for that… he also refused to mention his name over anything… just the title “philanthropist”.

Today, I wonder… why haven’t those “genius” capitalists, who can’t cease to glorify the Zionist experiment and take it as a role model, worked on establishing universities like the Technion; Israel institute of technology, and the Hebrew University?

The Technion, which two or more of its scientists were awarded the Nobel prize, was established upon civil contributions by a group of Zionists a quarter of century before the Zionist state came to eminence… it was first established in 1924 in the same place of what is known today as the museum of sciences, technology and space… then, it was moved to its current location on mount Carmel in 1953… due to the vast area occupied by the institute, it was called the “village of the Technion”…

I here excerpt from a website established by that university which is considered the first in the Zionist state regarding educational standards in fields of sciences, engineering and medicine… if anyone wants to know more about universities and education in the Zionist state, they can surf the internet and shall find wealth of information about everything starting from acceptance criteria, variety of colleges, educational and social environments and living in Haifa itself as to weather, transportations, cost of living, demographic composition and entertainment places.

Likewise, The Hebrew university was established upon civil contributions in Jerusalem in 1925; meaning one year after the Technion… sources say it’s a public Israeli university in the city of Jerusalem established in the time of British occupation mandate by an initiative of the Zionist movement… this university is considered one of the best academic institutions in Israel… it also includes Nobel prize awarded-scientists and is listed in the 64^th place worldwide as per Shanghai ranking of universities…

The university is funded by the state in addition to – which is very important to mention here – donations, revenues of selling books, granting copyrights over researches… also, one of the most important financial resources for the university is selling permissions to use the name and photo of Albert Einstein as per his will since he asked for the rights of using his name and photo to be transferred to the university after his death… again, if anyone wants to know more, they shall search the internet.

Going back to the question I asked above to those extremely busy doing two things; the first is glorifying the Zionist model and state considering it the model that shall be followed by all who seek progress, development and achievement… the second is the earnest endeavors to smear the mental image visualized by the majority of people regarding the time period spanning from 1952 to 1970 and its symbol Gamal Abdel-Nasser and attack him as if he is still alive…

What makes it really funny and caricaturistic is that we may have laughed if we were in 1973 and found some committing regular spaces in newspapers to attack Sa’ad Zaghloul… since the time span between Zaghloul’s death and 1973 is 46 years which is the same time period since Nasser left our world and our present time…

Imagine for example that Ahmed Bahaa ed-Din, Haikal, Muhammed Zaki Abdel-Qader and others dedicating their columns and articles in 1973 to warn people of Saad Zaghloul’s negatives and bad deeds… or even the contrary; meaning they might have written about the greatness of Saad Zaghloul and mention his feats and good deeds… it’d have been funny indeed.

We witnessed no one of those who keep telling us about the greatness of the Zionist experiment launching an initiative to encourage his fellow capitalists who agree to his point of view to establish an Egyptian Zionist movement… and to establish the Egyptian Technion and Egyptian Hebrew University!

There is absolutely great difference between worshipping yourself and maximizing your financial profits and worshipping your country or idea and acting like the great prince Lorenzo who established the European renaissance or being one of the Rothschild’s who established, funded and contributed to the establishment of the Zionist state… or like those unknowns who established the Technion and the Hebrew University and whose names are not remembered.

Translated into English by: Dalia Elnaggar

This article was published in Almasry alyoum newspaper on September 7, 2016.

To see the original article, go to:

http://ahmadelgammal.blogspot.com.eg/2016/09/blog-post.html

#almasry_alyoum #ahmed_elgammal