Wednesday, 14 September 2016

عيد من نوع خاص




منذ فترة أواصل الاطلاع على جوانب مختلفة في تكوين ومسار الدولة الصهيونية، وكلما أوغلت وانتقلت مما هو انطباعي سريع إلى ما هو مفصل ودقيق أدركت أن الاعتماد على المعلومة الانطباعية السريعة خطر.

ومن الأمور التي أوغل في معرفتها ما يتصل بدور الجيش في الاقتصاد الإسرائيلي تحديدًا؛ وسأكتب وجهة نظري وفق ما سأفهمه في مقال لاحق إن شاء الله؛ لأن موجة الهستيريا المشتعلة الآن في مصر ضد دور الجيش المصري في الاقتصاد والخدمات تستوجب فتح مناقشة أكثر عمقا وأكثر احتراما للعقل.. بعدما ساد الإسفاف والتهكم المزري بأصحابه قبل أن يكون مزريا للعقل والحقيقة.

ولأننا ما زلنا في ثالث أيام العيد، ومعظم الناس في إجازة فلا بأس من تخفيف ينتقل من جهامة السياسة إلى رحابة مجالات أخرى!

في عمق الذاكرة ما زالت وقائع العيد في القرية حية كأنها الأمس القريب.. ربما لأنه يقال إن المرء مع تقدم العمر يتذكر التفاصيل البعيدة القديمة بحذافيرها فيما ينسى ماذا أفطر اليوم أو إذا كان قد تعاطى دواءه أم لا!

كان لدينا جحش شديد الخبث.. كأنه كما كانت تصفه جدتي بني آدم سخطوه حمارا.. فهو يجري بخطى سريعة إذا كان عائدا للدار التي يعرف الطريق إليها من كل اتجاه دون أن يوجهه أحد.. وهو بطيء متكاسل إذا كان متجها للغيط أو لمشوار آخر، وما زلت أذكر كيف أفسد علينا أنا واثنين من أقربائي فرحة الإفلات ضحى العيد من تسلط الكبار وطلباتهم.. ذلك أننا اقتنصنا بعض هبر اللحم فوق أنجر فتة واختلسنا الشاي والسكر والقوالح- قلب كيزان الذرة بدون حبوب- لزوم راكية النار، وطبعا البراد والأكواب الصاج الكالحة، وفي مقطف حملنا كل ذلك ثم امتطينا ظهر صاحبنا الذي يبدو أنه كان يعرف أن اليوم عطلة بسبب العيد.. ووضعنا البردعة وقفزنا على ظهره ومعنا المقطف بحمولته الثمينة.. ومضى صاحبنا متباطئا مدلدل الأذنين يقدم ساقين ويؤخر، وانعطفنا على الطريق الملاصق للمصرف الواسع الذي يمر عبر حقول القرية قادما من كفر الزيات متجها لأقصى الشمال بمياهه الداكنة التي تعلوها الرغاوي الرمادية وتفوح منها رائحة كل ما ألقي فيها من فضلات صرف زراعي وصرف مجاري وصرف كيماوي من المصانع.. ومضى الجحش كعادة الحمير ماشيا على حافة الحافة، ثم فجأة انكفأ بمقدمته باتجاه الأرض وإذا بالثلاثة والمقطف بما فيه نتدحرج إلى المياه الملوثة ولم ينقذنا إلا التشبث بشجيرات البرنوف النامية شيطانيا على انحدار الجسر!

وتركنا صاحبنا، ونهض بسرعة واتجه ركضا بأقصى قوته عائدا إلى الدار! وكانت مأساة أن نعود ثانية وقد فقدنا الزاد وعدة الشاي- البراد والأكواب- التي ظلوا يبحثون عنها دون فائدة، وكأن عفريتا خطفها!

وفي العيد ذات سنة علا الصياح بالقرب من الدار، وخرج من خرج لاستطلاع ما يجرى صباحية العيد، وإذا بسيدي- جدي عم أبي- وكان الوحيد في القرية الذي يفهم في قياس الأرض ومساحات المباني وهندستها، والسواقي الكبيرة وتأسيسها ثم إنشائها بدقة لتأخذ المياه من الترعة وترفعها، وكان أيضا له سجل تاريخي في حب الحياة، إذ كان في القرية خلال الثلاثينيات محل لبيع المشروبات الروحية- الكحولية- وكان شريكه فيه أحد الذين يزعمون شرف الانتساب للشرفاء، وكانت صناديق النبيذ والأوزو تأتي من اليونان مكتوبا عليها اسم ذلك الجد وذلك الرجل!

في ذلك الصباح احتدم الخلاف داخل دارهم حول موعد ذبح الذبيحة وطريقة توزيعها، ولما حسم الأمر وبدءوا في الطهي طرق بابهم ضيوف من زملاء ابنهم الكبير، واستقبلوا ودخل الشاي ثم صفق الابن طالبا كبريتا لإشعال السجائر، وسلقط في ملقط لم يوجد في الدار كلها كبريت، وللخروج من المأزق أحضرت الأم صحنا من الصيني السكسوني المحترم ووضعت عليه بعض الجمرات المشتعلة التي التقطتها من الكانون، ووضعت الصحن بالجمرات على صينية وأمرت بإدخالها للأفندي وأصحابه.. وبعد قليل خرج الضيوف ليعود الابن هائجا صارخا محتجا على الفضيحة.. فضيحة عدم وجود كبريت، وبدأ يطارد ذكور البط الضخمة المرباة في وسط الدار ويقبض على رقبة دكر البط ثم يفطسه في بئر المياه المحفورة- حسب ما كان سائدا آنذاك- في كل دار كبيرة ويصيح: "لو كنتم بعتم ده.. مش كنتم معاكم فلوس تجيبوا كبريت"؟!

ولم يستطع أحد إيقافه عند حده حتى هدأ بعد أن فطست عدة ذكور بط! عندها خرج الجد من الدار مرتديا قميصا قصيرا من الدمور، وجلس أمام باب الدار يستنزل اللعنات على الدار وعلى من فيها وعلى نفسه: "اللهم اجعله عيد أسود عليّ وعليهم يا رب"! وفيما هو يرفع عقيرته ويديه باستنزال اللعنة، كان كلبهم المحبوس فوق السطوح يجري بمحاذاة السور العلوي المرصوص عليه طواجن مزروعة بنبات الصبار، وينبح ليخيف كلبا آخر كان يمشي بجوار الدار، وفيما الكلب يجري وينبح وجدي مستمر فيما هو فيه ارتطم الكلب بطاجن فخاري كبير مملوء بالتربة والصبار ليهوي على رأس الجد في اللحظة ذاتها التي استنزل فيها اللعنات.. وعندها، وفيما دمه يسيل توجه برأسه وعينيه للسماء وقال: اشمعني هذه التي تمت الاستجابة لها.. ما أنا بقي لي سنين أدعو بالرزق وفك الضنك؟!

كنا نخرج إلى "العيد".. هكذا كنا نسمي الساحة الواسعة التي تنصب فيها "المراجيح" و"الزقازيق"- عبارة عن آلة تدور بأذرعها المعلقة فيها صناديق خشبية- وفيها يقف العتال، وكان ضخم الجثة خفيف الظل ليبيع بالوظة ملونة- نشا معجون بسكر ولون صناعي بمبي أو أحمر- ويضعها في قطع من كسر الفخار.. المهم أن تكون "الشقفة" مقعرة قليلا تحمل عدة ملاعق من الصنف.. وإلى جواره من يقلون الفلافل ويبيعون الحلاوة الطحينية.. وكم من نوبات إسهال غير معلومة المصدر ضربتنا دون أن يفطن أحد إلى بالوظة العتال!

ثم كان المشهد المتكرر في المساحة التي تذبح فيها البهائم سواء في العيد أو غيره، إذ يتوالى وضع بعض الأطفال المصابين بشلل الأطفال داخل الروث بمجرد فتح كرش البهيمة، فيما البخار يتصاعد دليلا على سخونة الروث، ظنا أنه يتممم شفاء المصاب.. وكانت الكارثة الكبرى وهي البحث عن حمار أسود غطيس للحصول على روثه "الفِشْل"- فاء مكسورة وشين ساكنة- الساخن هو الآخر بمجرد نزوله من مؤخرة الحمار لوضعه على عين الطفل المصاب بالرمد وكم منهم فقد بصره!

انطوت الصفحة!
                       

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 سبتمبر 2016.

No comments:

Post a Comment