عند مطلع الخمسينيات، وبعد قيام ثورة يوليو واستقرارها، وصل
مسئول أمريكى والتقى قائد الثورة جمال عبدالناصر، ثم ذهب إلى الدولة العبرية
ليلتقى القيادة الصهيونية، وظن أنه سيهديهم مفاجأة سارة بقوله إنه التقى عبدالناصر
وأنه أخبره أنه لا ينوى شن حرب على إسرائيل لأنه مشغول تماما ببناء بلده وتنميته.
وعلى عكس ما توقع المسئول الأمريكى رد القادة الصهاينة وأظنهم - على ما أتذكر -
شاريت وبن جوريون، إن هذا هو أسوأ خبر سمعوه أو توقعوه، لأن انشغال مصر ببناء
نفسها هو الخطر الحقيقى على إسرائيل. هذا الكلام موثق وسبق نشره عشرات إن لم يكن
مئات المرات.
بعدها كانت الغارة الصهيونية على غزة، وتوالت الأحداث على
النحو الذى عرفناه وعاشه بعضنا معظم حياته، إلى أن وصلنا فى مرحلة من المراحل إلى
التفرغ للصراع ضد الدولة العبرية والوجود الصهيونى وتأجيل معظم - إن لم يكن كل -
خطط التنمية، بل وتم التخلى عن بعض أهم المشروعات الإستراتيجية التى كنا قد قطعنا
فيها شوطا أو أشواطا، والتفاصيل فى ذلك كثيرة ومضنية!
تلك مقدمة لن تصب فى اتجاه يذهب إلى الانكفاء وإلى التقوقع
وإلى التنصل من مسؤوليات مصر فى محيطها وتجاه أمنها الوطنى المباشر، الذى تمثل
فلسطين فيه وبلاد الشام البوابة الشمالية الشرقية المباشرة، ويمثل الوجود الصهيونى
الاستعمارى الاستيطانى العنصرى الخطر الحقيقى والأكبر، الذى لا يمكن وضعه فى سياق
واحد مع ما أظنه - بل وأعتقده - خطرا قويا تمثله جماعات الإرهاب الدينى الذى يزعم
الانطلاق من مرجعية إسلامية.
إنما تصب المقدمة فى حتمية مناقشة وضع بلادنا على الصعيد
الداخلي، وعلى الجوانب كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفى كل
أنحاء مصر، وما إذا كان هذا الوضع ينعكس مباشرة على سياستنا الخارجية، باعتبار
الأخيرة لا تنفصل بتاتا عن أوضاع الداخل، التى هى فى النهاية تمثل ما لدينا من
أوراق قوة نستطيع أن نلعب بها فى مضمار العلاقات الدولية والأوضاع الإقليمية!
وليس عيبا ولا نقيصة فى حق الأوطان حضارة وتاريخا أن تعيش دورة
اضمحلال وتردٍ على جميع الأصعدة وتنعكس ملامحها على دور الوطن وعلى التزاماته،
وإنما العيب كل العيب والنقيصة التى ما بعدها نقائص هى تجاهل هذا الوضع والتعمية
عليه، والانطلاق إلى وضع من اثنين: إما وضع ما يسمى «طق الحنك» و«فنجرة البق» يعنى
فرقعة الشعارات الملتهبة ورص العبارات الساخنة وتسيير المظاهرات الحاشدة التى
يركبها الهتيفة محترفو اختراع العبارات التى تمتص كل طاقات الغضب وإمكانات الفعل،
ثم نعتبر أنفسنا قد أدينا واجبنا، ولا بأس من قليل من البهارات؛ بتخفيض تمثيل
دبلوماسى أو طرد سفير أو حتى تجميد علاقات، فيما القنوات الأخرى التحتية
الاستخباراتية والاقتصادية والتعاون فى المجالات غير المعلنة يبقى قائما، أو كما
يقولون يبقى «على ودنه» دون توقف كما هو حال تركيا وقطر! أما الوضع الثانى فهو
الاندفاع نحو تصعيد الصراع وتفجير الموقف وفتح الجبهات العسكرية والدخول فى معارك
حربية، ويكون الهدف غير المعلن هو الهروب من أزمات الداخل بتفجير معركة حربية
خارجية، رغم أن كل المعطيات تقول وتؤكد أننا لا نملك المقومات الكاملة ولا شبه
الكاملة لحرب حقيقية نضمن فيها أى احتمال للانتصار، ثم نأكل العلقة ونكون قد هربنا
ولو لفترة من أزمات الداخل، ونكون أيضا قد اتقينا شر ألسنة وصحافة وتليفزيونات
المزايدين الذين لا يريدون للمحروسة أن تخرج بحال من الأحوال مما هى فيه، أو
الآخرين الذين لا يميزون بين الانتحار وبين القتال على أسس قوية تكفل الحيلولة دون
ضياع الوطن!
فى وطن هلكه التهاب الكبد الوبائى والفشل الكلوى، وطحنه الفقر
والجهل والمرض، ويفتك به الإرهاب حتى كاد الوضع يصل إلى ما يشبه الحرب الأهلية،
وفى غياب التماسك على كل المستويات ووجود تفتيت وتفكيك دينى وطائفى ومذهبى وجهوى
واجتماعى..
وفى وطن يمد يده شمالا وشرقا ليجد القوت لأولاده، الذين يضن
بعض أصحاب المليارات منهم بأى جهد جذرى لإنقاذه من ذل السؤال.
وفى وطن يقترب نصف سكانه من خطر الفقر، وتتجاوز نسبة الأمية
الهجائية فيه حوالى 40 بالمائة من سكانه، فيما الأمية الدينية والثقافية تكاد تكون
سمة الغالبية، وفى وطن استنزفه الفساد والإفساد والنهب المنظم، وتنشغل أذرعه
القوية من جيش وشرطة بالأمن الداخلى..
فى وطن يعيش هذا كله يأتى من يتهم الإرادة المصرية بالتقاعس
والانهزام والتواطؤ مع العدو الصهيوني!
ثم إن عملية المواجهة ضد العدو الصهيونى تستلزم عمليا وعلميا
وجود حائط صد عربى قوى يبدأ من دول الطوق المواجهة وهى مصر وسوريا والأردن ولبنان،
ويمتد إلى دول المساندة فى القوس الثانى وهى العراق وليبيا والسعودية والسودان، ثم
بقية الدول العربية، فأين نحن الآن من كل ذلك؟
أين سوريا التى لا حرب بدونها ولا سلام فى غيابها.. وأين
العراق الظهير القوى الغنى بمياهه ونفطه وموارده المالية وشعبه وأين.. وأين؟!
كفى «طق حنك وفنجرة بق» وكفى تعاميا عن حقيقة أوضاعنا الداخلية
والإقليمية والأوضاع الدولية، وتعالوا نخوض الصراع طويل المدى على أسس حقيقية قوية
راسخة!
والصراع طويل المدى هو أن نمتلك بعقولنا وسواعدنا وإرادتنا
بنية اقتصادية واجتماعية قوية ومتماسكة، ونمتلك بنية علمية وبحثية وتطبيقية لا تقل
بحال عما عند عدونا، ونمتلك درجة تماسك حول هدف واحد هو مجد مصر وقوتها ومنعتها
ودورها الحتمى فى محيطها، كما يتماسك الصهاينة من مختلف الفئات والاتجاهات، يعنى
من الملحدين إلى الحاخامات، ومن الحمائم - بفرض وجودهم - إلى الصقور حول هدف وحيد
هو وجود إسرائيل وبقاؤها واستمرارها متفوقة على كل جيرانها.
الصراع طويل المدى هو أن تعود مصانعنا التى بيعت وصروحنا
الاقتصادية التى صفيت إلى ما هو أقوى مما كانت عليه، وأن يستقيم أمر جامعاتنا
ومراكزنا البحثية وأمر علاقاتنا الاجتماعية، وعندها نكون بصدد حسم الصراع الذى لا
يجب أن ينفصل فيه الفعل المقاتل عن الفعل المقاوم.
فلتقاتل قوى القتال المهيأة لذلك على أرض فلسطين، وليكن المجد
والخلود للشهداء، وفى الوقت نفسه فلنستمر فى الفعل المقاوم بأن نعيد بناء مصر
لتكون وطنا حرا أبيا مستقلا يعتمد على ذاته ويعطى من حوله، ولنعمل على أن يصل خبر
بناء مصر وقوتها وتماسكها إلى الصهاينة ليكون أسوأ خبر تستقبله آذانهم.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 31
يوليو 2014
No comments:
Post a Comment