عود على بدء قديم.. فقد كنت ممن نذروا جهدهم للقضية الفلسطينية
لسببين، أولهما أن فلسطين وسائر بلاد الشام، كجغرافيا طبيعية وسياسية، تقع فى صميم
حزام الأمن الوطنى المصرى الذى حدده
أسلافنا المصريون القدامي، بأنه يمتد شمالا إلى منابع المياه المعكوسة «دجلة
والفرات» وجنوبا إلى قرن الأرض، أى القرن الإفريقي، وثانيهما أن الكيان الصهيونى
أو الدولة العبرية ـ يمثل ويجسد أعتى صور الاستعمار الاستيطانى العنصرى، ولابد من
مقاومته وتصفيته طال الزمن أم قصر.
ولأننى كنت وبقيت للآن كذلك، فإن علاقتى وأظن عديدين مثلى
بالقضية الفلسطينية تراوحت بين السعى للفعل المقاتل وبين الانخراط الذى لم يتوقف ـ
وإن أصابه الفتور أحيانا ـ فى الفعل المقاوم.. إذ الفرق بين الفعلين واضح وهو
اختلاف فى الدرجة، وإن كنت أعتقد أن الفعل المقاوم أكثر اتساعا وشمولا من المقاتل
الذى قد يقتصر على حمل السلاح أو إطلاقه.
وقبل أن أستطرد أود أن ألمح إلى إجابة سؤال افتراضى أحسبه
يراود البعض، وهو أليس فى القضية الفلسطينية بعد ثالث وهو البعد الدينى، لأن أرض
فلسطين فيها أولى القبلتين وثانى الحرمين ومنها كان المعراج، وفيها مهد المسيح
ومواطئ أقدامه وكنيسة القيامة، وأقول أن فيها أيضا مثوى النبى إبراهيم وبقية
سلالته من إسحق؟! وأجيب أننى أعتقد أن البعد الدينى على هذا النحو هو الذى يجعل
لكل طرف من أطراف الصراع حجته الدينية، أما البعدان الوطنى والتحررى فلا مجال
للصهاينة أن يزعموا فيهما شيئا، والتفاصيل فى ذلك كثيرة ليس هذا مجالها. ثم إننى
عدا تأديتى الخدمة العسكرية الإجبارية فى وطنى مصر خلال الفترة من 1973 إلى 1976،
فقد سارعت إلى السعى لمواجهة الصهاينة قتاليا أثناء غزوهم لبنان 1982 وكنت من وراء
تجهيز الطائرة التى حملت المتطوعين للقتال من الشارقة بالإمارات العربية إلى دمشق،
وكنت على متن الطائرة وتقدمت إلى المسئولين السوريين فى معسكر «عدرا»، الذين كانوا
مسئولين عن استقبال وتوجيه المتطوعين إلى جبهة القتال، وفى ذلك قصة مأساوية كبيرة
كتبت بعض فصولها فى مرات سابقة.
ولقد بدأ جيلى وعيه بقضية فلسطين مع تفتح وعيه بقضية التحرر من
الاستعمار وبمواقف ثورة يوليو وعبدالناصر، وكبرنا حتى صار معظم خطابنا السياسى
والثورى فى الحركة الطلابية والشبابية المصرية منذ مطلع السبعينيات، يقوم على عمود
فقرى هو قضية فلسطين وتحرير التراب المحتل.
ولقد شاء حظى أن التقى قادة منظمة التحرير، وعلى رأسهم ياسر
عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وهايل عبد الحميد وفاروق قدومي، العديد من المرات
وخاصة فى بيروت، ولم يخل الأمر من مناوشات جادة كنت ـ بالطبع ـ البادئ فيها، ومنها
ذلك الموقف الذى جرى فى العاصمة الجزائرية عندما استقبل ياسر عرفات الضيوف
المصريين الذين يشاركون فى الدورة الـ 17 للمجلس الوطنى الفلسطيني، وكان الوفد
المصرى حاشدا بما يزيد على مائة شخصية، ووقفت فى الطابور حيث سيمر أبو عمار
للسلام، وكان مكانى بين السيدين أمين هويدى ومحمد فائق وسلم عرفات على الأول ثم
تجاهلنى ليسلم على الثانى، فإذا بالسيد أمين هويدى، رحمة الله عليه، يستوقفه فورا
ويسأله إذا لم يكن قد رآنى.. ورد عرفات بعصبية: أنا لا أسلم على من يريد تخريب المؤتمر، واستطرد بأن الدكتور
عصمت سيف الدولة وفلان ـ الذى هو أنا ـ تعمدنا توزيع كراسة عنوانها «هذه الدعوة
للاعتراف المستحيل» كتبها الدكتور عصمت وكتبت المقدمة، وطبعت الكراسة فى مطابع دار
الخليج التى أعمل بها بالإمارات، وحملت معى خمسمائة نسخة إلى الجزائر!
غاية ما أود الإشارة إليه هو أن علاقة أجيال مصرية بقضية
فلسطين قتالا ومقاومة منذ ما قبل 1948 وإلى الآن، هى علاقة عضوية لا يمكن ولن يمكن
لأحد أو لظروف أن تفصمها! ولكن ما الذى جرى حتى يفصح شخص يعتبر قضية فلسطين نذر
حياته، فيقول ويعترف بأن فتورا اعتراه تجاهها؟!
الإجابة مركبة وتبدأ من الآخر.. أى من النقطة التى نعيشها الآن
ومنذ عدة أعوام، أى الوضع الراهن للسياق والذى فرض سؤالا مخيفا بل ومرعبا هو: فى
مجال الأمن الوطنى المصرى هل يمكن إنكار أن الكيان الصهيونى يمثل خطرا قويا على
مصر، وأن الجماعات التى تزعم اتخاذ الإسلام مرجعية لها وتحمل السلاح وتسيطر على
الحدود المباشرة مع مصر ومعروف رؤيتها التى قد تصل إلى أن تحرير القاهرة بأسلمتها
مقدم على تحرير القدس وفلسطين تمثل هى الأخري، وكما عشنا وعايشنا وعانينا، خطرا
على مصر؟!
ثم هل تجوز المفاضلة بين خطرين أحدهما تمت فرملته ولو مؤقتا
باتفاقيات كامب ديفيد المعيبة، وثانيهما لم يمكن فرملته حتى الآن؟
الإجابة عندى هى للسؤال الأول نعم إن الكيان الصهيونى وتلك
الجماعات المتأسلمة تمثل خطرا على الأمن المصرى، أما السؤال الثانى فهو عندى أنه
لا تجوز المفاضلة، لأن الكيان الصهيونى لا يستهدف فلسطين فقط وإنما مصر أيضا، ولا
يريد لها أن تنهض بحال من الأحوال، ولا أكاد أشك لحظة واحدة فى أن الترتيب لمجيء
التيارات المتأسلمة للحكم فى دول الطوق «مصر ـ سوريا» وانتعاشها بقوة فى الأردن
والعراق ولبنان، ناهيك عن ليبيا وتونس كان بمباركة صهيونية، لأن الصهاينة يعلمون
أن مقتل النهوض العربى والتحرر الوطنى ومواجهة الاستعمار، هو فى وصول تلك القوى
إلى موقع اتخاذ القرار.
لقد جرت فى نهر الأحداث مياه وصخور وشوائب بغير حصر، وإذا
فتحنا الباب لقراءة نقدية صارمة لوجدنا أن جميع الأطراف تحمل وزر تقطيع أوصال رحم
العلاقة بين مصر وبين فلسطين، وأصبح معضلا أن نعيد إنتاج الحقيقة الجيوسياسية
واستراتيجية مرة أخرى بالأسلوب نفسه، وإن كانت المعطيات لم تتغير.. وأعنى بها
حقيقة أن قضية فلسطين هى جوهر الأمن الوطنى المصرى، وبذا فهى قضية مصرية بالأساس..
ورحم الله أياما أقام فيها الفلسطينيون سرادقا لتقبل العزاء فى وفاة سعد باشا
زغلول عام 1927، ورحم الله أياما بكى فيها الفلسطينيون وذرفوا الدمع والدم على
جمال عبد الناصر مثل المصريين، وربما أكثر من بعض المصريين!
نعم.. فلسطين عربية.. ونعم الصهاينة محتلون استعماريون
استيطانيون ولابد من مواجهتهم آجلا أو عاجلا.. ونعم .. كذلك لأن حماس ومن على
شاكلتها تمثل خطرا بدرجة أو أخرى ومن نوع مختلف على مصر، ومن ثم كيف نستطيع إدارة
التعامل مع تلك الأخطار تعاملا لا يضرب الأمن الوطنى المصرى والقومى العربى فى
صميمه، ولا يسمح لأن تكون ممارسات المتأسلمين بوابة ينفذ منها كل ما ومن يريد ذبح
القضية الفلسطينية، تقربا لنصيب فى شرق أوسط جديد توزع فيه كعكة المصالح بإشراف
صهيو ـ أمريكى مباشر؟ وكيف نستعيد خطابنا الوطنى والقومى التحررى المواجه
للاستعمار الاستيطانى العنصرى والإمبريالى العالمي، ونصوغه مجددا وننعش به ذاكرة
الجماهير؟!
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17
يوليو 2014
No comments:
Post a Comment