Thursday, 23 April 2015

معايير تقييم الرئيس السيسى




عند مطلع السبعينيات نوقشت بقسم التاريخ فى كلية الآداب جامعة عين شمس رسالة دكتوراه فى تاريخ مصر الحديث، قدمها الباحث عبد الخالق لاشين الأستاذ الدكتور بعد ذلك، وهو ممن يرون أن المنهج المادى يعد أشد المناهج علمية وموضوعية، وأن المادية التاريخية هى الفلسفة الحقة لتفسير التاريخ. وكانت لجنة المناقشة مشكلة برئاسة أستاذى شيخ مؤرخى مصر الحديثة والمعاصرة، الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، وعضوية الأستاذ الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى «وهو أستاذى أيضا وقامة علمية سامقة»، ثم الأستاذ الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله عالم التخطيط والاقتصاد المرموق، ومن أبرز نجوم الحركة الشيوعية المصرية وأنصعها مواقف ورؤية. وكان سر دعوة الدكتور إسماعيل كعضو من خارج الكلية هو انتماؤه لنفس منهج الباحث، ومن ثم فمن المؤكد أنه سيتعاطف مع الطالب ولن يحرجه أو يمانع فى منحه أعلى تقدير. وبدأت المناقشة وجاء دور الدكتور إسماعيل وكانت المفاجأة المدوية، إذ بعد أن أثنى على جهد الباحث اتجه من فوره إلى مناقشته فى قضية المنهج، وقال على ما أتذكر إذ كنت حاضرا حيث ربطتنى بالباحث وبالمشرفين أواصر محبة وصداقة وتلمذة، إن الباحث حمل المادة التاريخية فوق ما تطيق، وتكمن نقطة الخلاف فى أنه بنى رسالته على رؤيته لسعد زغلول كزعيم ثوري، ومن ثم حاكمه تاريخيا بهذه الصفة بينما الحقيقة والواقع الذى يعرفه الجميع هو أن سعدا عمل وزيرا ورئيسا للوزراء وبرلمانيا بين عضو وبين رئيس. ومن ثم فقد قبل العمل من داخل مؤسسات النظام القائم آنذاك وتبوأ فيها أرفع المناصب، ولذلك فهو زعيم إصلاحى وليس زعيما ثوريا، وقد أدى الخلل فى زاوية الرؤية إلى محاولة الباحث لى ذراع المادة التاريخية ليثبت أن منهجه المادى التاريخى صحيح!.. ثم أعلنت النتيجة بأعلى تقدير تمنحه الجامعات المصرية.

أتذكر ذلك المشهد ومضامينه كلما قرأت ما يكتبه البعض فى الصحافة أو سمعته من آخرين فى التليفزيون يحاولون تحليل توجهات رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى، وقد تكرر أن اتجه البعض لمحاكمته ومحاكمة نظامه بمعايير راديكالية أو جذرية، سواء من المتطلعين للاشتراكية أو الآملين فى الليبرالية.

وعادة ما يبدأ هؤلاء وأولئك أن النظام القائم الآن ورئيسه جاءا بعد ثورتين شعبيتين قام بهما الشعب المصرى ليسجل حالة نادرة فى تاريخ الأمم، مع أنه هو نفسه الشعب الذى ثار فى القاهرة مرتين متواليتين فى أقل من ثلاث سنوات ضد حملة بونابرت المعروفة بالحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر.

وعلى ضوء «الثورتين» نجد مسطرة المعايير التى يصل بعض من هؤلاء وأولئك إلى أن السيسى لم ينفذ شيئا من المطالب الثورية للجماهير، كالعدل الاجتماعى والديمقراطية الكاملة والطهارة الثورية فى عموم البلاد بما لا يترك فرصة لفساد من أى نوع وبأية درجة ولم يقطع علاقات مصر بإسرائيل ولم ينشئ ويرعى جبهة ثورية عربية فى الدول التى شهدت ثورات مثل مصر، لتواجه الجبهة المحافظة التقليدية خاصة فى الجزيرة العربية، بل إن الشواهد ــ عندهم أيضا ــ تشير بل تؤكد أن ثمة مصالحة مع نظام حسنى مبارك من مؤشراتها إقفال معظم القضايا التى قدموا فيها للمحاكمة وحصولهم على براءات، لأن الأوراق كانت مرتبة والأدلة مبتورة، وكأن النائب العام آنذاك عمد إلى تقديم القضايا وهو متأكد أنها «فشنك»، بل إن وزارة محلب رئيس الوزراء القريب من الرئيس لا تخلو بدورها من منتسبين لنظام مبارك وحزبه الوطني، كوزير الإسكان الذى يصفه البعض بأنه من أتباع محمد إبراهيم سليمان.. وهلم جرا.

ويتفق بعض أهل اليسار بدرجاته من قوميين وناصريين وماركسيين وشيوعيين، مع بعض أهل اليمين بدرجاته أيضا على تصميمهم على تقييم أو محاكمة السيسى ونظامه بالمعايير الثورية المرتبطة بأجندة الثورتين، بل بما هو أقصى من تلك الأجندة أي: اليسار كما جاء فى الكتب، والليبرالية كما أنزلت فى المراجع.

عندئذ نتذكر منطق ومنهج الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله، ويكون السؤال كيف نقرأ الظواهر وكيف نقيمها وكيف نتفاعل معها؟ والإجابة ببساطة مفرطة هو أن نقرأ الظواهر كما هى وأن نحذر من أمرين أولهما أن نحملها فوق ما تطيق ونعمد لوللى ذراع الواقع ليثبت صدق منهجنا وصحة رؤيتنا، وثانيهما أن نسقط عليها معاييرنا متعسفين مع تكوينها وآليات حركتها.

إننى أظن أننا بصدد نظام يتخذ من الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة منهجا وطريقا للوصول إلى الغايات الوطنية التى تمثل القاسم المشترك الأعظم، أو تعبر عن الحل الوسط التاريخى الذى يكفل عدم البقاء فى المستنقع، وفى الوقت نفسه الامتناع عن القفز فى فضاء المجهول.

وفى ظنى أن الرئيس السيسى دون أن أحمل الظاهرة فوق ما تطيق أو أن أسقط عليها مفاهيمى الخاصة ــ يمضى فى خطواته بتكتيك التدرج الإصلاحى مستبعدا الصدمات الكهربائية ــ كما فعل السادات بزيارة الكيان الصهيونى ومعاديا لآليات الفساد والبيروقراطية والتواكل ومحاربا لمنظومة القيم المعادية للتنمية والتحديث وما كان حديثه المستمر وتحريضه على تجديد الخطاب الدعوى إلا فى هذا الاتجاه.

فى ظنى أننا نموذج يعرف أن الجديد لابد له من قديم ينبت فيه، ويدرك حجم ونوع الثغرات التى أحدثت الثقوب فى الثوب الناصري، والثوب الساداتي، إلى أن كانت الهلاهيل المباركية، وهى ثغرات لم تجد بعد من يستطيع أن يلضمها فى خيط منهجى مدروس باعتبار أن الحقب الثلاث تمثل جزءا من تاريخ مصر، ولابد من استيعاب دروسها.

إننى أدعو لأن نقرأ الأبعاد التى تشكل الواقع المصرى الآن على كل المستويات من قمة الحكم إلى سفوح العشوائيات، وفق منهج واضح نرصد فيه الوقائع والمتغيرات مدركين أننا ربما إزاء حالة مركبة لا هى إصلاح هادئ ولا هى ثورة هادرة.. وإنما هى تحقيق لأهداف الثورتين بخطوات إصلاحية متدرجة مدروسة تتعاظم فى «الماكرو»، أى الكبير، مثل قناة السويس والساحل الشمالى والطاقة النووية وتحديث القوات المسلحة ومواجهة الإرهاب، لتصل بالحتم إلى «المايكرو»، أى الصغير، الذى قد لا يري!.. وربما يكون للحديث بقية.
                                           
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 23 أبريل 2015

No comments:

Post a Comment