Thursday, 9 April 2015

البحث عن يهوذا




أبدأ بتهنئة من تحق له التهانى بعيد القيامة المجيد.. ومن تحق له التهانى ليسوا مسيحيى مصر وحدهم ولكن كل الذين يدركون أنه وطن تراكمت رقائق حضارته وثقافته داخل وجدانه حتى صارت سبيكة وطنية واحدة يستحيل فصمها إلا بتدميرها!!، ثم أدعو بمناسبة عيد القيامة أن نجتهد للبحث عن يهوذا الأسخريوطى فى كل مكان من أرض المحروسة!

ويهوذا الأسخريوطى لمن لا يعرفون هو ذلك الرجل من تلاميذ السيد المسيح له المجد، وقد تمكنت منه الخيانة فسعى لتسليم المسيح إلى أعدائه.. أعداء الحق وخصوم الحقيقة.. نقرأ فى إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث عشر تصويرا للمشهد الذى بدت فيه خيانة يهوذا، وكيف كشفه السيد المسيح: «أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب إذ كان قد أحب خاصته الذين فى العالم أحبهم إلى المنتهي. فحين كان العشاء وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الأسخريوطى أن يسلمه. يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي».. ثم نقرأ فى الإصحاح نفسه «.. لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمنى فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فى من قال عنه. وكان متكئا فى حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذى قال عنه..» «أجاب يسوع هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الأسخريوطي!»
ثم تأتى لحظة قمة الخيانة فنقرأ فى إنجيل لوقا الإصحاح الثانى والعشرين: «.. وبينما هو يتكلم ـ الضمير هنا عائد على السيد المسيح ــ إذ اجمع والذى يدعى يهوذا أحد الاثنى عشر يتقدمهم فدنا من يسوع ليقبله فقال له يسوع يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان!»

نحن أمام من أكل «العيش والملح» ثم خان، وأمام من اندفع ليصنع القبلات على وجه سيده ومعلمه ثم سلمه لمن يعتزمون إيذاءه بل ينتوون قتله.

لذلك أدعو لنبحث بالدليل والبينة والسلوك والموقف والنتائج عمن يخترقون هذا الوطن ويخونونه، وقد أكلوا خبزه وشربوا ماءه وتمتعوا بثروته، وتراهم يبادرون بتوزيع العواطف الزائفة فى كل لحظة!

لا بد أن نبحث عن يهوذا الذى يلوث ماء النهر والتربة والهواء ويسمم الزرع والضرع، كى تتوالد أجيال مريضة عليلة لا تنتج ولا تقدر على الدفاع عن ترابها الوطنى وعن الحياة!

ولا بد أن نبحث عن يهوذا الذى يدمر العملية التعليمية والبحثية، ويقدم المناهج والأفكار المسمومة لأطفالنا وشبابنا فيتخرجون فى الجامعات، ويحملون أعلى الدرجات، وهم لا يكتبون جملة عربية صحيحة ولا يجيدون لغة أخري، ولا يملكون أى قدرة بحثية خلاقة!

نبحث عن يهوذا فى مجال الخدمات العلاجية والوقائية، أى صحة الإنسان المصرى ذلك الخائن الذى ينتج دواء بلا مادة فعالة، ويترك المرضى بلا عناية، والمعدات يعلوها التراب أو يأكلها الصدأ والإهمال أو يرتشى مقابل حصول الناس على حقوقهم المشروعة.. وهكذا هو يهوذا فى الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات وكل مجال!

أما الأخطر فهو يهوذا الذى لا يتوقف عن تعميق وتوسيع خطر التفتيت والتفكيك، تفتيت الوطن إلى معازل منفصلة وفق الدين أو الطائفة أو المذهب، وتفكيك الوطن إلى جهات وأعراق وتمزيقه بالظلم الاجتماعى بدعوى حق رأس المال أن يكسب ما يشاء وفقما شاء دون أى التزام حضارى أو ثقافى أو اجتماعي!

والأشد خطورة هو يهوذا الذى يستحل لحم ودم أبناء الوطن، وفى طليعتهم قواتنا المسلحة والشرطة، وأيضا الأبرياء الذين يلقون حتفهم جراء تفجيرات القنابل فى الشوارع وعلى الكباري، وأمام المدارس والمستشفيات والبنوك ونقاط الحراسة!

هو يهوذا الذى يسهل إقامة الأنفاق تحت الحدود ويتستر عليها، وهو يعلم أنها خناجر مسمومة تمتد فى جسد الوطن، تمزق شرايينه وأوردته وأحشاءه، وهو يهوذا الذى يهمل ولا يتعلم الدرس ولا يستفيد من الخبرة، ويترك يهوذا الأكثر خيانة يشمت ويبتهج بأنه ينفذ الجريمة بالأسلوب نفسه مرة بعد مرة، نافذا من ثغرات الإهمال والاعتياد وعدم الانتباه.

ونحن نبحث عن يهوذا لا بد أن نلتفت إلى أنفسنا فربما يكون داخل كل واحد منا يهوذا الخاص به.. يهوذا الذى يثبط همتنا من داخلنا فنعوق الآخرين النشطين عن أداء دورهم.. يهوذا الذى يحفزنا للتشكيك فى كل شيء والسعى لتشويه كل إنجاز، والتقليل من شأن أى جهد، وطمس ملامح المستقبل بالسواد الكالح الذى يحجب الضوء ويطمس البصيرة ويعمى البصر!

لا بد أن نبحث ونقتل يهوذا الذى بداخلنا، يبيح لنا الانتهازية والوصولية وتبوؤ المواقع بلا كفاءه إلا إجادة النباح وتمزيق نسيج الوطن!

فى عيد القيامة.. هذه تهنئة لمن يحق لهم ذلك.. وفيه أعيد التذكير ببعض ما جاء فى الموعظة على الجبل: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السموات.. فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون فى المجامع وفى الأزقة لكى يمجدوا من الناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك. لكى تكون صدقتك فى الخفاء. فأبوك الذى يرى فى الخفاء هو يجازيك علانية. ومتى صليت فلا تكن كالمرائين» إنجيل متى الإصحاح السادس.
                                          
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 9 أبريل 2015

No comments:

Post a Comment