اختلفت معي الدكتورة جمال حسان استشارية الطب النفسي في المملكة المتحدة، والروائية المصرية المتميزة، حول مسألة تعرض جهاز المناعة الوطني لإصابات ذكرت عددا منها في سياق ما أكتبه عن مقدمات وتمكن السرطان الإرهابي المتطرف من الجسد المصري.
وكتبت ما نصه: "دعني أختلف معك أيها الصديق
العزيز.. برغم دقة كل ما ذكرت فإنني أتصور أن الوجه الآخر لعبث المشهد في تلك
الأيام إنما هو شعلة تحدي البقاء في وجه إعصار يضرب العالم بأجمعه من فساد نفوس
البشر على كل مستوى، ونحن لا نرى سوى الواقع المصري منه. تذكر معي كيف أحال
المصريون مرارة الانكسار في 5 يونيو 1967 إلى شرارة تحدٍ وصمود في 9 و10 يونيو من
العام ذاته، وكان ذلك طريق الاستنزاف وأكتوبر العظيم.. من رحم الألم يولد الأمل..
والأمل في الله عز وجل باقٍ ولا ينتهي"...
انتهى ما كتبته الصديقة الدكتورة جمال حسان،
وأبدأ بالاتفاق معها، لأنني فيما أقرأ ما جرى لمصر وخاصة ما أتصور أنه أصاب وجودها
الحضاري والثقافي والإنساني في الصميم، وعبرت عنه بأنه الإصابات التي ضربت جهازها
المناعي، لم أنس لحظة واحدة أن وطننا يملك مقومات وإرادة المقاومة والنهوض، وهكذا
فعل المصريون في كل حقب تاريخهم، إذ أصاب الاضمحلال والانحطاط واقعنا في تاريخ مصر
القديم والوسيط والحديث والمعاصر، واستطاعت الأمة أن تستجيب للتحديات، وربما لو
أردنا أن نستخلص قانونا عاما يقنن حركة التاريخ المصري لقلنا إنه ببساطة دورات
تتوزع حلقاتها بين اضمحلال وبين نهوض، وأؤكد أنني بصدد استكمال ما أطرحه حول
إصابات جهاز المناعة الوطني بالكتابة عن مقومات الحصانة والانطلاق!
غير أن ما ذكرته الدكتورة جمال حسان عن هزيمة
يونيو، ثم إرادة الصمود والمقاومة والانتصار من 67 إلى 1973 يدخل في صميم ما أذهب
إليه، حيث الفرق كبير بين خطر يدهمك بهراوة ضخمة يهوي بها على جسدك تبقيك عاجزا
لوقت ما وبين خطر يتسلل إلى دمك ونخاعك لحظة بعد لحظة حتى إذا انتبهت وجدت السرطان
يلتهم الخلايا الصالحة الحية بلا توقف، وهذا هو السبب من وراء الصمود بعد الهزيمة،
إذ كان جهاز المناعة الوطني المصري لا يزال سليما، وقدرته على المقاومة متجلية في
الإرادة الوطنية العالية، أما ما جرى بعد ذلك فقد كان عبر خلايا مسرطنة من الجسد
المصري نفسه، استفحل أمرها وتوغلت حتى حكمت!!
إنني لا أستطيع أن أغفل إصابة جسيمة أخرى تضاف
إلى الإصابات التي رصدتها من قبل، واستهدفت جهازنا المناعي الجمعي، وهي الخلط
الجسيم البشع بين محاولات الوصول إلى حل للصراع ضد الدولة العبرية والاستعمار
الصهيوني الاستيطاني، وبين ضرب الوطنية المصرية وتقويض ثوابتها الجغرافية
والتاريخية، وأيضا الحضارية والثقافية من باب أن كل ما قد يتعارض مع تلك المحاولة
للتعامل مع الصهاينة لا بد من إلغائه، واعتباره مضادا للتفكير الحر وللتعامل مع
المتغيرات ولمقتضيات المصالح الاقتصادية، التي تحكمها توازنات إقليمية وعالمية
تجعل للدولة العبرية مكانا يصعد بها إلى أن تكون القوة العظمى الإقليمية، ولأن
يتأكد أن رضاها والقبول بما تريده هو الباب الذهبي الوحيد لقلب وعقل وخزانة الولايات
المتحدة الأمريكية.
وهكذا توالت معزوفات السخرية من مصطلح الوطنية،
ومعه مصطلحات أخرى كالقومية، والأمة العربية، والعالم الثالث، وحركة التحرر
العالمي، ولم تكن السخرية منها كمصطلحات وفقط، وإنما كمضامين لعبت دورا قد نختلف
على أهميته في حياة الوطن، ولا يمكن الاختلاف على وجوده، واستبد الذين اقترفوا ذلك
الخلط فصاروا يحاصرون الآخرين ويوسعون دوائر نفوذهم حتى صاروا متحكمين في منابر
إعلامية صحفية وفضائية، وانقسم الرأي العام المصري، ليجد السرطان الإرهابي الديني
المتطرف بغيته في الانفراد بالعمق الاجتماعي، الذي كان رد فعله تجاه ذلك الخلط
وتلك الاشتباكات أن أصابه النفور من كل الأطروحات الوطنية، الأمر الذي خدم الطرح
الديني المتطرف الذي يرى أن الوطن شيء بغيض، لأن العقيدة هي الوطن، والكتاب المقدس
هو الدستور، وتراث البنا وقطب والمودودي والألباني وابن تيمية وغيرهم هو التشريع
ولا شيء سوى ذلك.
فإذا أضفنا لما سبق محنة التعليم الذي انحطت كل
مقوماته، ومحنة السينما والمسرح، ومحنة الدراما التلفزيونية، ومحنة قصور الثقافة
الجماهيرية، عدا عن تشكيل جمعيات للعمل الأهلي أو منظمات غير حكومية يتمول معظمها
من جهات دأبت على وضع خطط تفتيت مصر، وتفكيك مقوماتها وضرب وجودها الوطني في
الصميم، حتى تغولت تلك المنظمات والجمعيات وباتت أقوى من الدولة المركزية في كثير
من الحالات لأدركنا حجم المأساة في هذا الجانب.
لقد ظل تحدي العدوان الخارجي واحتلال التراب
الوطني والتراب القومي، وظلت قضية فلسطين حافزا جبارا للاستجابات الوطنية المصرية
وتجلياتها في كل المجالات، ثم كان أن أصبح العدو صديقا ثم حليفا ثم سيدا يملك
المنح والمنع عبر بوابة الولايات المتحدة، وهكذا يجد المرء نفسه أمام تحدٍ عظيم هو
البحث عن مقومات استعادة المناعة الوطنية وعن الطريق لحثها ومزاولتها مجددا.
No comments:
Post a Comment