تذاكيت وربما تغابيت فأوقعت بعض الفضلاء من
الذين يتابعون ما أكتب في التباس، إذ ظننت أن من يعرف الكاتب أو يتابعه لن يصدق
أنه يهاجم قممًا مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم لحساب تمجيد الراحل الأستاذ
هيكل، ورغم أن كثيرين لم يلتبس عليهم الأمر، وأدركوا موقفي من خلال سياق مقال
الأسبوع الفائت، إلا أن التنويه لما كان يجب أن يكتب واجب، إذ كان يكفي أن تكتب
كلمة "عند" لتضاف قبل الحديث عن عديمي الموهبة وأنصاف الموهوبين الذين
يطعنون في تميز وتفرد قمم وطنية وإنسانية، كالذين ذكرت أسماءهم من الفنانين وأيضًا
الأستاذ هيكل.
وأنتقل لما أود أن أكتب فيه اليوم ألا وهو العجز
الذي يتمكن من البعض عند مناقشتهم ظواهر بعينها، قد تكون سياسية أو فكرية أو
مسلكية، وهو عجز يتمثل في الانصراف والابتعاد عن تحليل الظروف والأسباب والسياقات
التي تجعل ظاهرة ما مستمرة، وأحيانًا يتصاعد استمرارها وتأثيرها، رغم أنهم يرونها
سلبية وحافلة بالعيوب والنواقص، وبدلاً عن مناقشة وتحليل تلك الظروف والأسباب
والسياقات وتأصيلها وفق مناهج البحث المستقرة في العلوم الاجتماعية، والإنسانية
بوجه عام، وفي التاريخ والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، والنظم والنظريات السياسية
بوجه خاص فإنهم يتجهون مباشرة إلى شن غارات كثيفة من التهجم الحافل بالمغالطات
والممتلئ بما يطلق عليه العامة من أمثالي "الردح وفرش الملاية"!
وقد ألتمس العذر لبعض الذين يستبدلون ذاك بهذا
ــ والباء تدخل دومًا على المتروك، أي الذي تم الابتعاد عنه ــ لأنهم جهلة لم
يتعلموا شيئًا عما تحتويه مناهج البحث، رغم أنهم قد يعدون في نظر البعض، وبالطبع
في نظر أنفسهم من المثقفين لمجرد التوقيع في "سركي" تجمعات السهارى في
حانة أو أخرى، أو على مائدة رأسمالي معتبر يحب الثقافة ويتبسط مع ضيوفه الذين
يبادر بعضهم لرد جميله "فيعومون على عومه" ويسنون نصالهم للطعن فيما
يبدي هو رأيه السلبي فيه، غير أن مسوغ العذر يتلاشى إذا كان الشخص ينتمي حقًا
للذين يحترمون مناهج العلم ويوقرون الكلمة باعتبارها هي دومًا "البدء".
إننا إزاء ازدحام سياسي وفكري في المحروسة،
وللمزدحمين عمومًا مسلكياتهم التي تتجلى في الشارع الذي نمشي فيه، حيث يبادر كل
قائد سيارة بوضع مقدمة مركبته أولاً دون أن ينظر للإشارة، ووارد أن يصدم الشرطي،
وأن يجور على المشاة.. وحيث يبادر المشاة إلى المشي في أي اتجاه ودون أية ضوابط،
ويكثر المتحرشون والنشالون وتنتشر الفواحش في كل ثانية وكل ناصية وكل شارع وكل
ميدان، من أول فاحشة كسر الإشارات والاستهانة برجل الشرطة، كما أسلفت، وليس
انتهاءً بفاحشة رمي أعقاب السجائر وعلبها الفارغة وقشر الموز واليوسفندي وبقايا
أكياس الساندوتشات من نوافذ السيارات وإلى آخره!
وإذا جاز لي أن أمد الخيط فسوف نصل إلى فواحش
السياسة والفكر التي تبدأ بغياب المنهج واستبدال الردح وفرش الملاية والمغالطات
الفجة بالرؤية النقدية المبنية على التحليل وفهم المقدمات والسياقات والنتائج،
وصولاً إلى العجز عن تقديم رؤى بديلة أو الجبن عن الإفصاح عن تلك الرؤى والمواقف.
من الممكن أن ننهال تهجمًا وردحًا على الإخوان
والسلفيين ومن سعى مسعاهم من ذوي المرجعية التي تزعم أنها دينية، وكذلك الحال تجاه
الاشتراكيين الثوريين، والماركسيين، والليبراليين والناصريين، والذين بلا
أيديولوجية، وكذلك البراجماتيين وغيرهم، وقد شهدنا مثلاً موجات متعاقبة من هذا
التهجم على ثورة يوليو وعبد الناصر والناصرية، والعجيب أن الذين ضلعوا في هذه
العملية لم يتعلموا من تراكم الخبرة منذ بادرت دوائر في الغرب الأوروبي والأمريكي
والدولة العبرية، وبعض النظم الإقليمية إلى الحديث عن الانقلاب وحكم الكولونيلات
والعسكرتاريا عند مطلع الخمسينيات، ثم بادرت دوائر أخرى باسم الإسلام إلى الأسلوب
نفسه فتعاظم التهجم على الكفار والزنادقة دعاة الاشتراكية والتأميمات، وقتلة
الأئمة الدعاة في 1954 و1965 وبعدها جاءت موجات طفت فيها أسماء كانت من الذين
سبحوا بحمد الثورة وعبد الناصر، وهي أسماء معلومة كصالح جودت وموسى صبري وأنيس
منصور وغيرهم، ثم انقلبوا مع الزمن، وتعددت الموجات بعد ذلك وكلها تركز على أمور
محددة وكأنه تبليط الذي تم تبليطه أو حرث الذي تم حرثه!
ولست أدري لماذا لم يصرف بعض الذين يبهروننا
الآن بتبليط المبلط وحرث المحروث جزءا من جهدهم وعنائهم الذهني إلى البحث في ماهية
الظروف التي تجعل من ظاهرة سياسية واجتماعية تعلي من شأن يوليو وعبد الناصر
والناصرية مستمرة وأحيانًا متصاعدة، وربما مؤثرة في حاضر ومستقبل المجتمع، ولماذا
لا يقتصر الأمر على مصر بل إنه ممتد في مساحات أخرى كبعض دول أمريكا اللاتينية
وبعض دول إفريقيا، وفيها التقدير الإيجابي نفسه لناصر والناصرية؟!!
ذلك أن هذا البحث الذي أدعو إليه هو السبيل
الوحيد لمواجهة الظاهرة والتصدي لسلبياتها إذا كانت كلها سلبيات، أو لتعظيم ما قد
يكون فيها من إيجابيات في مواجهة سلبياتها حتى لا تتكرر المحنة!!
وعن نفسي فقد كتبت في "الأهرام" وفي
"المصري اليوم" مقالات عديدة أناقش فيها ظاهرة الإخوان والسلفيين، وعدت
إلى المصادر والمراجع ابتداءً من فقه ابن حنبل وفتاوى وفكر ابن تيمية وابن عبد
الوهاب، ثم رسائل حسن البنا وكتابات سيد قطب والألباني، وأزعم أنني قدمت قراءة
التزمت بمناهج البحث وقواعد التحليل، ثم إنني بصدد بذل الجهد نفسه لمناقشة ظاهرة
الداعين للتعاون بلا حدود مع الدولة العبرية والحركة الصهيونية، الناقمين على أي
مخالف لهم، متهمين إياه بالجهل والتخلف والعبودية للأفكار والممارسات الديكتاتورية
إلى آخر الأطروحة.. وربما يبدأ الرصد والتحليل بالإشارة إلى من أسموا أنفسهم
"بأصحاب المصلحة الحقيقية" عند مطلع القرن العشرين، الذين دعوا للتعاون
مع الاحتلال البريطاني، وكان يمثلهم حزب الأمة آنذاك! لأن هذا البعد التاريخي قد
يكون مدخلاً مناسبًا لفهم الظرف الموضوعي الذي تتوالد فيه مثل هذه الاتجاهات.
إنني أدعو الحريصين على تعميق وعي الرأي العام
بخطورة بعض الاتجاهات كالناصرية مثلاً إلى الكف عن تكرار وإعادة إنتاج الخطاب نفسه
الذي أنتجته الموجات المشار إليها في سياق المقال، أما الذين لم نعرف عنهم يومًا
موقفًا دفعوا ثمنه من حريتهم أو من رزقهم وعملهم ويعومون على عوم مطعميهم فلهم
العذر.. كل العذر.
No comments:
Post a Comment