Wednesday, 30 March 2016

من وحي المثلث الذهبي


عائلة على الباب للودفيج دويتش


"كوريا" و"الدكش" و"مشاكل" أسماء حركية لأعلام ــــ لا مؤاخذة ــــ المثلث الذهبي الواقع في محافظة القليوبية التي هي مع الجيزة والقاهرة تمثل القاهرة الكبرى!

كل "لا مؤاخذة" أعلام الإجرام الجنائي يتخذون أسماء حركية، مثلما هم أعلام ــــ أيضا لا مؤاخذة ـــــ الإجرام المتغطي بزعم المرجعية الدينية، لأننا سنجد مفارقة عجيبة في الحالة الثانية، وهي أن أعلام ذلك الإجرام يتخذون كنية "أبو فلان"، مع أن القرآن الكريم لم يطلق هذه الكنية فيما أعلم إلا على أبي لهب.. أما الأنبياء والرسل فتحدث عنهم بأسمائهم مباشرة!

"كوريا" و"الدكش" و"مشاكل" أسماء حركية ذكرتني بما عايشته في فترة الحبس الاحتياطي التي استطالت شهورًا، إذ استيقظت من نومي صبيحة ترحيلي من سجن الاستئناف إلى ليمان أبي زعبل ــــ على وزن أبي لهب أيضا ـــــ على صوت غليظ قبيح ينادي بعزم ما فيه "أحمد جزمة".. وكررها مرات متوالية مدوية، وقلت في نفسي "يا أولاد الجزمة.. للدرجة دي بدأت حفلة التنكيل من أول صباحية"! ثم انتقل الصوت مناديا على أسماء أخرى "سيد المجري" "حسين مغسل" وهلم جرا، وعندما تقصيت الأمر وجدت أن المنادي غليظ الصوت القبيح هو "نوباتشي" من المساجين القدامى مسؤول عن استدعاء وتجميع المساجين العاملين في ورش الليمان ومرافقه! فالأول الذي يحمل اسما مماثلا يعمل في ورشة الجزم، أي الأحذية، أما سيد المجري فقد أخذ اللقب من أنه "عنين" فاقد للذكورة فهو عندهم مثل القطار المجري أيامها، وهو يعمل في تنظيف دورات المياه، وحامل لقب مغسل فهو في ورشة غسيل ملابس الضباط والصف!

أما أغرب لقب فقد حمله مسجون في سجن الاستئناف، إذ لقبه الجميع- بمن فيهم إدارة السجن- "بالكويتي"، حيث كانت الكويت منذ أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات أشهر بلد غني عربي يذهب إليه المعارون من المدرسين والأطباء وغيرهم ويعودون مستورين يقتنون نظارات "البيرسول" و"فانلات تي شيرتات ـ المارسليزييه" ـــــ هكذا كان نطقها ـــــ وسيارات الفيات! وهي أشهر الماركات التي كانت تمثل "أملا" لكل معار عائد من الكويت قبل أن تظهر الإعارات إلى بقية دول مجلس التعاون الخليجي والعراق! وكان أقرباء المعار العائد يتحاكون عن تلك المقتنيات ويتباهى بعضهم بالنظارة والفانلة الخارجية إياهما.

كان "كويتي" سجن الاستئناف قد حصل على اللقب وتلاشى اسمه الحقيقي، لأنه أغنى مسجون في سجون المحروسة، وسبق أن كتبت عن "الشيفرة" التي كنت أسمعه وهو ينادي بها من الدور الثالث فيما كنت في الدور الثاني من السجن ذاته، على زعيمة عصابته التي تزوره مساء كل يوم متجمعة في شارع درب سعادة خلف السجن ليأمرها بأن تحضر اللب والمصاحف الجديدة "لانج" والشوكولاتة. أي الأقراص المخدرة والكتاشين ــــ أوراق اللعب ـــــ والحشيش! وهكذا كانت للمهربات من المواد أسماء حركية هي الأخرى!

وأعود لكوريا والدكش ومشاكل الذين حفلت بأسمائهم الصفحات الأولى وصفحات الحوادث في كل الصحف منذ أيام، ضمن متابعة العملية التي أطلق عليها تطهير المثلث الذهبي للإجرام والمخدرات في قرى بعض مراكز محافظة القليوبية، لأجد أننا أمام ظاهرة كارثية تبدو كجبل الثلج الغاطس منه أضعاف أضعاف حجم الظاهر.. لأنه كم مثلث ومربع ومخمس ومسدس ومسبع ومثمن ذهبي وربما بلاتيني والماسي في ربوع المحروسة، ولا يشترط أن تكون كلها للمخدرات وإنما يمكن أن تجمع ذلك مع ما هو أخطر منه، مثل السيطرة الإجرامية على الطرق الفرعية في المحافظات والطرق الطوالي في الوجه القبلي الواصلة بين المحافظات.. ومثل السيطرة الإجرامية على مناطق بأكملها لنشر الباعة الجائلين الذين يفرشون في شارع عباس العقاد مثلا، لدرجة أنه أصبح أسوأ مما كان في وسط القاهرة، ولنشر المتسولين والنصابين والنشالين والهجامين الذين يرصدون العمارات والشقق ويرعبون البوابين.. ثم حدث ولا حرج عن مثلثات الرعب في التخليص الجمركي وفي سطوة وضع اليد على المناطق المتاخمة للشواطئ ولأراضي الاستصلاح الزراعي وإلى آخره!

لقد تمكن كوريا ومشاكل والدكش ومن معهم من بناء القصور والفيللات الفخمة في عمق حدائق الموالح والموز والمشمش بالقليوبية، واستغلوا الحدائق المتشابكة التي لا تسقط أوراقها ولا تجف فروعها في أي فصل؛ في الاحتماء من قوات الشرطة، وبدت الدولة بكل جبروتها غائبة عن المشهد إلى أن طالت النيران ملابسها وأحرقت لحمها الحي ممثلا في الشهداء من ضباط الشرطة وجنودها الذين طالتهم أيدي المجرمين، وكان لا بد لجحا أن يتخلى عن حكمته الشهيرة "قالوا لجحا النار ولعت في دارك فقال ما دام بعيدا عن مؤخرتي يبقي خلاص"، وآسف لضرب هذا المثل الذي لا يجوز ضربه إذا كان الكلام عن دولة نحترمها ونعتز بأننا من مواطنيها.. ولكن القافية حبكت!

ولأن الحكايات تستدعي الحكايات فإنني أتذكر ما جرى فيما أنا صبي صغير، مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، يجلس على أطراف الحصيرة مرهصا السمع للكبار الجالسين على الكنب المرتفع يشربون الشاي ويدخنون سجائر "معدن ممتاز" إنتاج شركة "كوتاريللي"، ثم ينسحبون قبل أذان المغرب موعد حظر التجوال الذي فرضته الحكومة على قريتنا وأرسلت الهجانة - راكبي الجمال - الذين كان ينتمي معظمهم إلى المواطنين المصريين من أبناء القبائل الجنوبية داكني البشرة، وعلى جانبي وجوههم خطوط عميقة محفورة في الجلد، وهم أشداء لا يتفاهمون ويمسكون بسوط "كرباج" سوداني رهيب، ويخاطبون المذكر بضمير المؤنث والعكس!

كانت قريتنا قد أجرمت عندما لقي ضابط النقطة مصرعه رميا بالرصاص أثناء قيادته دورية ليلية جراء تعنته مع الناس وإهانته بعض كبار القوم، وجاء الهجانة لننام من المغرب إلى شروق الشمس، وكانت "وقعة" مؤذن القرية العجوز "سودة"، عندما ذهب للمسجد لأذان الفجر فإذا بالهجانة ينزلونه من المئذنة ويوسعونه ضربا بالكرباج صائحين: "يا ديك الكلب.. إحنا ننيمها وأنتي تصحيها"!

شاهد الكلام أن الحكومات إذا أرادت فعلت وأنجزت مثلما نزلت البلدوزرات خلال الأيام الفائتة تفتح الطرق داخل حدائق المثلث الذهبي.. ولا أدري هل سيستكملون العملية بخلق فرص عمل لمن فقدوا عملهم جراء القضاء على كوريا والدكش وأقرانهما، أم أنهم تركوا الخميرة جاهزة لتنشط وتخمر المعجنة ثانية عند أي فرصة متاحة؟!
                                 
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 30 مارس 2016

No comments:

Post a Comment