هذه أول مرة أكتب فيها عن شخص الرئيس السيسي.. فقد كتبت عن جمال
عبد الناصر بعد رحيله، ربما بحكم أنني لم أكن كاتبًا أثناء حياته، وكتبت عن أنور
السادات في حياته وبعد مماته، إذ كنت معارضًا رذلاً لسياساته، وكان أن رد لي
الجميل -!! - فحبست شهورًا طويلة على ذمة اتهام في قضية يناير 1977، وكتبت عن حسني
مبارك في رئاسته معارضًا أيضًا، ولم أكتب عنه بعد تركه موقعه اللهم في سياق انتقاد
سياسات وساسة عصره ونظامه، أي أنني لم أفرد الموضوع له.. أما عن مرسي والإخوان فما
كتبته جزء من رصيد وطني أعتز به معارضًا لهم قبل وأثناء وبعد وصولهم للحكم!
وأسال نفسي هل يسعى أصحاب الأقلام باختلاف أهمية ما يكتبون إلى
اصطناع الولاء والطاعة للرؤساء، وهل كان ذلك وسيبقى المدخل التقليدي المهيئ لظهور
الديكتاتور أو بالأصح الأوتوقراطور؟!
هل يمكن أن يقع المرء وهو في مرحلة من العمر والنضج والاستغناء في
فخ صناعة الاستبداد وإعادة إنتاجه مجددًا، بعد أن أدى الاستبداد إلى الفساد
فتحالفا مع الانتهازية وانعدام الخيال ونهم السلطة والمال، وكانت النتائج هي ما
عايناه - من المعاينة - وعانيناه - من المعاناة - أي كانت نتائج أكثر من كارثية!
الإجابة باختصار .. نعم.. إذا التقى اصطناع الولاء والطاعة مع نهم
السلطة فإن الديكتاتور مولود.. مولود لا محالة!!
والإجابة باختصار أيضًا.. لا.. إذا تلاشى النهم للسلطة والتحكم،
وحل محله الرغبة والإرادة والعمل على الإصلاح والنهوض والتقدم، وعرف الحاكم أنه
جاء بأصوات الناس.. ويعمل بهم ولأجلهم، وعرف أنه واحد منهم لا تقتضي ميزته كرئيس
أن يكون الأفضل، وعرف من رؤوس الذئاب الطائرة من قبل أن حبل الاستبداد مهما غلظ
فهو قصير مسكون بالعثة.. أي ينقطع في النهاية لأنه مشدود دومًا!.. ثم فوق هذا كله
إذا برهن الحاكم من خلال خطابه المعلن وسلوكه العملي المعلن أيضًا أن له وجهًا
واحدًا قسماته هي التواضع.. وهي الاهتمام بالضعفاء وهي السهر على مصالح الشعب وحل
مشاكل الوطن.. وهي الثقة بالله، وهي أيضًا أنه كما أن لكل شيء بداية فإنه حتمًا له
نهاية، والمسافة بينهما لا بد أن تمتلئ بما يجعل النهاية هي الأخرى بداية أخرى للخلود
في وجدان الأمة!
أعتقد أن عبد الفتاح السيسي هو ذلك البشر الإنسان الذي يدرك عن
يقين حكاية البداية والنهاية وما بينهما!
فالنشأة في الجمالية القريبة، بل المتداخلة مع الدرب الأحمر
والحسينية هي نشأة في حزام الوعي بالبدايات والنهايات.. فمولانا الإمام الحسين جزء
جوهري من "حالة الدراسة" النموذجية للبدايات والنهايات وما بينهما.. سبط
الرسول في بيت النبوة.. الأم زهراء بني هاشم والأب لا فارس إلا هو.. والمسار علم
وعبادة وزهد وفروسية.. والنهاية موقف مدفوع الثمن.. وأي ثمن وفي مواجهته المشهد
الحسيني، هناك الأزهر بداية فاطمية شيعية إسماعيلية ومسار زجزاجي بين ازدهار وبين
إهمال، ثم تتويج بقلعة سنية أشعرية تضم أروقة وأعمدة.. للموالك والشوافع والأحناف
والحنابلة.. ومخزنًا لذخيرة الثورة ضد العسف والظلم والاستبداد والعدوان
والاحتلال.. ومنبرًا وقف عليه القمص سرجيوس يهتف لوحدة الهلال والصليب، ووقف عليه
جمال عبد الناصر ليعلن أننا سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم!
وبالقرب من المشهد.. ومن الجامع تتناثر حبات العقد الفريد من مشاهد
آل البيت وأقطاب التصوف، وفيهم الجعفري السامق في شخصيته، الفريد في طريقته، الفذ
في نفحات علمه وكراماته!
وفي الدرب الأحمر والحسينية على أطراف الجمالية شهامة وجدعنة أولاد
البلد، ومنبع إبداع نجيب محفوظ!!
تلك هي باختصار شديد جغرافيا بداية عبد الفتاح السيسي.. التجار
يرتبطون بالكلمة وكلمتهم أقوى وأمضى من السيف وأصدق من أية شيكات وإيصالات..
وأمانتهم وكتمانهم من صميم رأسمالهم.. والشباب يعرفون العيب والحرام.. ومن ثم
التحصن عند أول إمكانية للزواج!
وفي المسار تأتي المدرسة الفذة في صناعة الرجال الأشداء الذين كلما
كانت بدايتهم أصيلة راسخة نبغوا في تلك المدرسة.. مدرسة القوات المسلحة أو مدرسة
الجيش المصري العظيم.. في الثانوي ومن ثم الحربية كان تعليمه.. وصقله.. وقيمه
ومسلكياته، وبعدها الالتحاق بالعمل ضابطًا صغيرًا يتدرج في مراتب الترقي إلى أن
يصبح قائدًا عامًا وها هو قائد أعلى.. يعني بالبلدي.. لم توجد ثغرة تنفذ منها أية
سوسة تخرب وتنخر في أسس البداية.. ولا في مسار النمو والاكتمال!
يذهب الرئيس المسلم السني المحب للصالحين إلى الكنيسة المسيحية
الأرثوذوكسية الأثناسيوسية القبطية بدل المرة مرات، ومن داخلها يقدم الاعتذار عما
جرى من إجرام تجاه الكنائس، وهي المرة الثانية في تاريخ الجمهورية منذ إعلانها
يذهب فيها الرئيس للكنيسة ويتعانق هو والبابا.. جمال عبد الناصر والقديس البابا
كيرلس السادس وعبد الفتاح السيسي والبابا تواضروس!!
فهل هي صدفة أن عاش عبد الناصر أيضًا في الجمالية طالبًا في مدرسة
النحاسين، ومقيمًا بحارة خميس العدس.. وكانت جغرافيا البداية على الناحيتين
واحدة؟!
كنت وما زلت أقرأ للبعض وهو يتندر متهكمًا على تقبيل السيسي لرأس
امرأة عجوز عاجزة، أو أم شهيد أو زوجة شهيد.. أو على احتضانه لأطفال من ذوي
الاحتياجات الخاصة، أو من مرضى السرطان، ويتندرون متهكمين أيضًا على مصطلحات صكها
وصارت تتردد في خطابه السياسي مثل "مصر قد الدنيا" و"في عيوني"..
إلى آخره.. ويسمونها "الحسوكة والسهتنة"، وبعضهم يرى أن مقام الرئاسة
يقتضي التجهم والتكبر.. ويقتضي الاقتضاب.. ويقتضي الكلام العلمي المنهجي الغليظ..
أقرأ، وكلما زادت جرعة تفاهتهم، واستمر الرئيس في أن يكون هو كما هو.. بغير تزويق
ولا ماكياج ولا اصطناع.. أدركت أنه ما زال بشرًا إنسانًا يعرف البداية والمسار
والنهاية، ولا مكان في تركيبته لنسيان نفسه.. لأنه من المؤكد أنه تعلم أن من ينسى
نفسه لا بد أن يكون قد نسي الله من قبل.. "نسوا الله فأنساهم أنفسهم"!
من الجمالية والدرب الأحمر والحسينية.. ومن الحسين والأزهر وأم
الغلام والجعفري.. إلى الثانوية العسكرية، ثم الحربية، ثم الوحدات العاملة.. ثم
التخصص في أرقى المعاهد العسكرية العالمية.. والترقي حتى القائد العام.. تلك هي
السبيكة الإنسانية التي جعلته يتمكن من "التعشيق" - بلغة سرعة السيارات
- مع الناس، وينقل من غيار إلى غيار، وأظنه لن يتوقف حتى تصل مركبة الوطن إلى
هدفها!
نشرت في مجلة المصور بتاريخ 13 يوليو 2016
في العدد رقم 4788.
No comments:
Post a Comment