كمن يشرب لينسى دون أن يفطن لصداع اليوم التالي،
سافرت ولم أصطحب معي كتابا ولا حاسوبا لأنسى دون أن أفطن لذلك العفريت الساكن في
جيبي، وما أن قفزت من القاهرة لروما إلى ديترويت في 13 ساعة طيرانا وعدة ساعات
انتظار على كراسي المطارات، حتى وجدت أن ثمة ثلاث ساعات أخرى في انتظاري بالسيارة
من ديترويت إلى سانت لويس في ميتشجان، وما أن أخرجت العفريت ونظرت لوجهه وجدته
يشير إلى توقيت جديد وشبكة اتصالات مغايرة وإلى "الواي فاي" الذي وجدته
مجانيا بالفندق فدخلت مباشرة.. وكأنك يا أبو زيد لا شربت ولا سافرت و"لا
غزيت"!
كان قفزا لكهل تجاوز السبعين والحمد لله أن لم
ينكسر حوضه ولم يدق عنقه، لأن المساحة الزمنية بين الذهاب والإياب لم تتجاوز أربعة
أيام، حضرت خلالها مناسبة عزيزة على قلبي ونفسي أعلنت عنها في "الفيس"!،
ولا داعي للخلط بين الإعلان والإعلام في هذه المساحة التي أصبحت أجد فيها جزءا من
صميم وجودي بعدما تعلمت من صديقي البديع كامل زهيري رحمه الله أن أكتب وكأنني أموت
غدا وأن أقرأ وكأنني أعيش أبدا.
لقد تابعت زيارة وفد الصندوق الدولي وتابعت ما
استطعت ملاحقته من تعليقات مع.. وأيضا ضد، وبقي في ذهني سؤال أبحث عن إجابته، وهو
كيف نقبل بالدواء العلقمي الذي قد يسقط شعر الرأس والحواجب ويمسح الملامح ويهد
الحيل ولكن لا علاج إلا به؟! كيف وقد اكتشف من كانوا يرفضون كل وصفات الصندوق من
قبل أن لو كنا نفذنا بعضا من الإصلاح الاقتصادي ووزعنا الفاتورة على السنين
المتعاقبة لكان الأمر أفضل مما فعلناه وتركنا الآثار تتفاقم حتى صار أنه لابد مما
ليس منه بد؟!
كيف نطبق خطط الإصلاح دون أن تنفجر الشوارع
والمصالح الحكومية والمدارس والجامعات وغيها بما انفجرت به من قبل وكان رادعا
مرعبا لأي صاحب قرار، فيسعى لإتمام مرحلته ثم يقبل يديه باطنا وظاهرا أنها مرت على
خير، وعلى القادمين بعده أن يتصرفوا ويتحملوا هم ما سينزل من ثقوب القربة
المخرومة؟!
إن أحدا من الذين يرون في الإصلاح الاقتصادي وفق
ما استقرت عليه الأمور في وصفات الصندوق المجربة بنجاح في دول أخذت بها، والمخفقة
في دول أخرى أخذت أيضا بها، لم يتحدث عن كيفية مواجهة ردود الأفعال التي يمكن أن
تحدث في الخريطة الاجتماعية مثلما حدث في يناير 1977؟!
نعم هناك فروق كبيرة بين الأوضاع الآن والأوضاع
آنذاك، أهمها هو العلاقة بين الناس وبين الحكم، ودعونا نتذكر بعض شعارات يناير
1977 التي أطلقتها الأدمغة ورددتها ملايين الحناجر آنذاك، وهي شعارات عبرت في
مضمونها عن بعض أسباب رفض الناس للإصلاح بتلك الطريقة.. طريقة تحرير الأسعار
والوصول للتوازن بين التكلفة الحقيقية للمنتجات وبين أسعار بيعها، سواء كانت
المنتجات كهرباء ومياها وخدمات نقل وطرقا وتعليما وخلافه أو كانت أشياء أخرى!
كان من بين الشعارات: "هو – أي السادات –
بيلبس آخر موضة وإحنا ننام عشرة في أوضة" و"همه بياكلوا لحمة وفراخ..
وإحنا الفول دوخنا وداخ"!.. ثم استهدفت الشعارات أسماء بذاتها كالسيد سيد
مرعي وكالسيدة جيهان السادات، ووصل الأمر لترديد هتافات شديدة الخروج عن المألوف
في الشارع المصري وعن الحياء العام!
لذلك فإنني أذهب إلى أن أهم، أو الأهم في مدى
اتساع وعمق ردود الأفعال لدى الشرائح الاجتماعية الواسعة التي لا تقرأ لكبار
المحللين الاستراتيجيين بدون أن أذكر أسماء، هو مدى إحساس الناس بالظلم الفادح
المرتبط بالفروق الضخمة في مستويات المعيشة بينهم وبين من يحكمونهم ويتخذون
القرارات، ثم تفشي الفساد والإفساد علنيا وعلى عينك يا تاجر بالاتفاق بين رؤوس
الحكم وبين شرائح بعينها كانت وأمست وأصبحت وصارت أسماؤها معروفة للكافة، ولذلك
فلم يكن واردا بحال من الأحوال وفيما الناس ترى الإعلام وقد كثف مادته على أناقة
وشياكة الرئيس، وأظهره وهو يرتدي الشورتات والبدل السينييه، ويدخن الغليون وزادت
جرعات التركيز على دور من اصطنعت لنفسها لقب السيدة الأولى، أن يقبلوا ببساطة
زيادة أسعار الأكل والشرب والوقود وغيره!.. وبالدرجة نفسها لم يكن واردا وقد تمت
المصاهرة بين القصر الرئاسي وبين أسر إقطاعية قديمة، وأسر رأسمالية عتيدة، وزادت
نسبة فرض الإتاوات على كل شيء، أن يصمت الناس على ما استيقظوا فجأة ليجدوه مفروضا
على حياتهم وجيوبهم!
لذلك فإنني أذهب بالتالي إلى أن الحكم وقد بات
مقترنا بالشروع الجاد والفعلي في الطهارة والشفافية والتواضع ومقاومة الإفساد
والفساد وقطع دابر المفسدين والمرتشين، وأن رئيس الجمهورية بدأ بنفسه فلم تعد هناك
سيدة أولى تتنطط في كل مكان ويقف الوزراء والقادة العسكريون أمامها
"انتباه"، ولم تعد هناك أبهة وجود الرئيس في جدول أكثر رموز العالم
أناقة وشياكة، إضافة إلى أن الرئيس تنازل عن نصف ما يملك ونصف راتبه، ثم ترجمت
شعارات البناء والانطلاق إلى واقع عملي في المشروعات الكبيرة وحل مشكلات الطاقة
والعشوائيات، وغير ذلك من إنجازات تمت في مدى جد قصير.. فهنا لم يعد لأهم مسوغات الانتفاض
وجود!
ثم إن هناك عاملا آخر أظنه سيساعد على تخفيف
ردود الفعل، وقطع الطريق على من سيجدونها فرصة للانقضاض على النظام والأخذ بالثأر
منه، وهو عامل الوضوح والشفافية الذي طالما نادينا به على اختلاف مشاربنا السياسية
والفكرية، وطالما قلنا أن لو أقدم أصحاب القرار على كشف كل جوانب الوضع القائم
وقدموا المشاكل بأمانة للناس، وطالبوهم بالمشاركة في تحمل المسؤولية لكان ذلك أقصر
الطرق لتحقيق المطلوب، ولأصبح هينا على الناس تقبل جرعات العلاج مهما كانت مرارتها
وآثارها الوقتية، طالما أدركوا أنها شافية على المدى الطويل..
ورغم ما سبق إلا أن السؤال يبقى قائما: كيف يمكن
تلافي ردود الفعل الاجتماعية – الجماهيرية- الواسعة أو حتى المحدودة على مناهج
الإصلاح وقراراته، دون أن يكون العنف هو السبيل لذلك؟! لأنه ثبت أن جحافل الأمن
المركزي وغيرها لم تصمد أمام الانفجارات الواسعة.. وثبت أن التكرار يعلم الشطار.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 17 أغسطس 2016.
No comments:
Post a Comment