بصرف النظر عما إذا كان هو الوزير العجاتي أم
غيره من وراء قانون الكنائس، إلا أن الأمر أصبح مقرفا، وبما يحمله القرف من معانٍ
وما يجلبه من آثار، ولن يكفي إنتاج المحروسة من الليمون البنزهير لإصلاح ما أفسده
ويفسده الذين يمعنون في فرض القرف على الناس وعيشتهم ليعم اليأس من أي إصلاح وأي
أمل، وليحدث التعميم فيعتقد كثيرون أن الدولة كلها من رأسها لساسها ضالعة في
المأساة وخاضعة لنفوذ الدقون السلفية، وخلايا الإخوان النائمة، وتعال حضرتك وحاول
أن تنفي أو تفند أو ترفض التعميم أو تدعي المعرفة من خلال متابعة مواقف رئيس
الجمهورية وخطابه السياسي بأنه لا يمكن أن يكون موافقا ولا من وراء ما يحدث، ولن
يصدقك أحد بل إن أخف تعليق ستسمعه: "إنه تقسيم أدوار"!
أول الكفر في قصيدة القرف هو أن الذين من وراء
القانون- شكلا ومضمونا- لم يستفيدوا أبدا من المختصين في هذا المجال، ولا من
تراكمات الخبرة والمناقشات المتصلة بالموضوع، ولو كانوا كلفوا أنفسهم مشقة بسيطة،
وهي البحث عن كل من له خبرة ويعرف كيف هي المعاني والصياغات الوطنية العابرة
للطائفية، ويعرف دلالات الألفاظ وكيف أن النصوص عندما تصرف لظاهر معانيها لا يجب
أن تحتمل لبسا ولا ازدواجا ولا نكوصا لمراحل متخلفة تعود إلى ما قبل العصر الحديث!
وإذا سألتني حضرتك عن تلك الخبرات والكفاءات،
ومحسوبك ليس رجل قانون ولا وزيرا ولا ناشطا سياسيا، لذكرت لك أسماء ما زالت على
قيد الحياة وفاعلة وفاهمة ووطنية ولا يجرؤ أحد على وصمها بأي شبهة طائفية! ذلك
لأنني طالما شاركت- ومنذ مطلع الثمانينيات- في فعاليات ثقافية وفكرية ناقشت هذه
المسائل، وتكونت قناعات مشتركة راسخة تشير إلى حتمية سد الثغرات أمام عدة
اختراقات، كلها قاتلة للوطن.
الاختراق الأول هو: استمرار شيوع الثقافة الطائفية
رأسيا بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، وأفقيا في مناطق بعينها أكثر من غيرها.
الاختراق الثاني هو: ابتعاد المواطن عن مواطنته
في الدولة، وتماسك الجماعات من حول المواطنة ودور مؤسسات الدولة ولجوؤه إلى جهات
أخرى دينية أو فئوية أو جهوية.. يعني ضرب وجود الدولة والارتداد إلى ما قبل
قيامها.
الاختراق الثالث هو: تحول الإكليروس المسيحي من
ناحية والقائمين على التعليم الديني والدعوة عند المسلمين إلى مراكز قوى، لا حدود
لها ولا سقوف داخل المجتمع، وبما يلغي ويعوق دور السلطات المختلفة من تشريعية
وتنفيذية وقضائية، وعلى النحو الذي شاهدناه وذبحنا أيام كان أمثال
"حسان" هم من يتدخلون لحل المشاكل!
الاختراق الرابع هو: التصعيد المستمر في حالة
الاحتقان الطائفي بتحويل كل الاحتقانات الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما إلى
طائفية، وبالتالي تغيب تماما أي درجة وعي سياسي وفكري تساهم في تقدم المجتمع.
الاختراق الخامس هو: المساهمة في انهيار جهاز
المناعة الوطني الشامل، مما يسهل تماما إمكانيات الأصابع والفيروسات الخارجية من
اللعب في الوجود المصري، ولنسمع مدير المخابرات الحربية الإسرائيلية يقول في حفل
توديعه من منصبه "لقد استطعنا أن نفعل- طائفيا- في مصر ما نشاء ولن يستطيع أي
رئيس بعد مبارك إعادتها كما كانت"!
وإن من أوسع الثغرات وأكثرها فداحة أن يجد مواطن
مصري نفسه أمام حالة تمييز ديني طائفي مقيت تحرمه مما يحظى به أخوه المواطن من دين
آخر، وأن يجد المواطن المصري أن دار العبادة الخاصة به تحكمها قوانين ولوائح جائرة
غير منطقية ومقرفة، وبصراحة فلقد تعبنا من سوق الأمثلة التراثية، منذ صلى الفاروق
عمر بن الخطاب خارج كنيسة القيامة، وقال عبارته الشهيرة، ومن قبله وصية الرسول-
صلى الله عليه وآله- بقبط مصر خيرا، والتساؤل: أليس من الخير أن نترك للناس حق
عبادتهم لله ابتداء من طريقة الصلاة وانتهاء بشكل بيت العبادة، خاصة إذا كان شكله-
أي تصميمه- مرتبطا بالطقوس نفسها؟!
وتعالوا نتساءل: ما الذي يضير الأمة من وضع
قانون موحد ينظم بناء كل دور العبادة للدين السماوي بشرائعه المختلفة، وللأديان
الأخرى، إذ إن مصر ليست أقل نضجا من الإمارات التي فيها حرية العبادة وبناء دور
العبادة لكل جماعة تقيم هناك، بمن في ذلك البوذيون والهندوس وغيرهما؟
ما الذي يضيرني كمصري من أن تبنى كنيسة جديدة أو
يعاد بناء كنيسة ضاقت أو تهدمت أو تجديد مرافقها وهلم جرا.. أم هي الخطيئة الكبرى
التي كانت أول معصية.. خطيئة التكبر.. "أنا أفضل منه" التي قالها إبليس
في مواجهة الأمر الإلهي بالسجود لآدم؟!
وأين كنت أنا كمسلم عندما كانت علامة مجيء الوحي
للرسول هي أن يسمع صلصلة جرس، وأن يكون أول من عرف أنه- وهو صبي- سيكون نبي أمته
هو راهب مسيحي يسكن أطراف بادية الشام اسمه "بحيرا"، وأن يحدث عندما
دخل- صلى الله عليه وآله- الكعبة عند الفتح فيفرد عباءته أو بردته على "صورة
أو تمثال للعذراء" والمسيحي ويقول ما معناه: "إلا هذين اتركوهما
لي"!
ما هذه العنجهية الكاذبة التي تنم عن أمراض
نفسية اجتماعية تسمى عند العلماء "أمراض الأغلبية" والمصيبة أنها عنجهية
فارغة من أي مضمون للتفوق وعلى أي مستوى!
اتركوا مصر عامرة بكنائسها ومساجدها ومعابدها،
وافتحوا الباب لكل من يريد ما من شأنه استقامة السلوك وسلامة القصد ومحبة خلق الله
وخدمتهم، لأن وجود المسيحيين تحديدا في مصر إرادة إلهية.. ولمن يريد تفصيلا فالعبد
لله جاهز!
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 24 أغسطس 2016.
No comments:
Post a Comment