Wednesday, 3 May 2017

الجهل الحويني المركب




من الحكايات الدارجة في عالم التدين الشعبي، أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازا الفلكلور الصوفي، حكاية تعلي من شأن العقل اليقظ والفطنة الإيمانية، حتى لو كان صاحبهما مرتكبًا للرذيلة، إذ يقولون إن إبليس قرر أن يجول في بلد ما واتجه إلى شخص انقطع عن الحياة العادية ولجأ إلى مغارة في جوف جبل قصي غير مأهول، وتقمص إبليس هيئة شيخ وقور واستأذن على صاحبنا فأذن له، وإذا باللعين يقول للزاهد: إن الله سبحانه وتعالى أرسلني إليك لأخبرك أنه راضٍ عما أنت فيه، ولكن أمامك اختبارًا أخيرًا لتثبت عمق إيمانك وعظيم طاعتك، ثم فرك اللعين أصابعه وإذا بامرأة وصبي وزجاجة خمر قد ظهروا في المغارة، واستكمل إبليس بأن الله يريد منك أن تختار بين أن تشرب الخمر أو أن تزني بالمرأة أو أن تقتل الصبي.. وصمت صاحبنا طويلا يفكر، وذهب تفكيره إلى أنه لو زنى فإنها كبيرة وهتك لأعراض وربما حملت المرأة في من لا ذنب له.. وأنه لو قتل الصبي فقد أزهق روحاً لا ذنب لها وآذى أهله، أما لو شرب الخمر فإن الوزر يقع على عاتقه وحده ولن يمتد الأثر إلى آخرين، ومد يده واختار الشراب فسكر سكراً شديدا، وزاغت عينه في المرأة فهجم عليها وفعل فعلته وفيما هو يلتفت رأى الصبي ينظر إليه فخشى أن يفضحه فقتله!

واختفى إبليس، لينزل من الجبل إلى وسط المدينة ويتجه إلى إحدى الحانات ليجد شخصا متعلما يعاقر الخمر في الحانة وألقى عليه التحية وقال له: إن الله أرسلني لك لأخبرك أنه راضٍ عما أنت فيه وسيغفر لك زلتك شرط أن تختار بين أن تزني بهذه المرأة أو أن تقتل هذا الصبي!

ومن فوره انحنى صاحبنا وخلع نعله وهوى به على رأس اللعين صائحا: اذهب أيها النصاب.. هل هناك رسل ورسالات بعد محمد والإسلام؟!

فحوى الحكاية واضح، وهو ببساطة: أن العبادة وحدها لا تعصم من السقوط في الفهم غير الصحيح ولا تحمي من ارتكاب الرذيلة، وإنما العلم وحده هو ما يتكفل بترشيد العقل وهدايته حتى إن كان صاحبه عاصيا! لأن صاحبنا الأخير لم يناقش مدى ما في الزنى أو القتل من مخالفة، ولكنه فطن إلى أصل المغالطة، وهو الزعم من شخص أنه رسول العناية الإلهية.

وفي هذا أذكر ما سبق وكتبت فيه، وهو أن مسطرة القياس الأصلية في كل أمر من أمور من يؤمنون بالله وملائكته ورسله وكتبه هي ما جرى في مشهد الخلق الأول، حيث أعظم حوار في حضرة الحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى.. إذ كان من اختير للخلافة في الأرض هو من تم تسليحه بالعلم، مع أنه- حسب ما ذكر الملائكة في الملأ الأعلى- سيفسد ويسفك الدماء!

وفي المشهد ذاته لم يصادر من قد نسميه تجاوزا "المعارض"، أي إبليس، الذي أبى واستكبر وتوعد وطلب ما طلبه فاستجيب لطلبه! وهكذا كان العلم، والعلم وحده، هو معيار الاستخلاف في الأرض.. لذلك فإنه من المثير للانتباه ولأمور أخرى منها الإشفاق الممتزج بالقرف أن تجد من يبالغون في إطلاق لحاهم وحف شواربهم ويسمون أنفسهم أهل العلم، ويطلقون على مخالفيهم- أو من يناقش دعاواهم- أهل النفاق، فإذا اقتربت واستمعت وأعملت عقلك واستفتيت قلبك وجدت أنهم أبعد ما يكونون عن العلم، خاصة ما يتصل بالفقه وأصول الدين.

ولقد شاهدت واستمعت لمن يسمى نفسه أبو إسحق الحويني، وهو يرد على ما سبق وكتبته وناقشته في غير مناسبة ببعض البرامج، وأنا أناقش ما سمعته منه حول وجه المرأة، وقد شبهه هو بعضوها التناسلي، وبالتالي إذا كشفت وجهها فكأنما كشفت فرجها! وشاهدته وسمعته وهو يفسر مقولته هذه وكيف أن "أهل النفاق الذين يغيرون وجوههم كما يغيرون نعالهم"– وهكذا بالنص– ويقصد بالطبع من خالفوه فيما ذهب إليه، لم يعجبهم ما قال، وقد قاله كمثال واستمد منطقه من القول السائد عن "خلع برقع الحيا"، وكيف أن جمهور العامة يسمون العضو التناسلي لأنثى الحيوان "الحيا" بدون همزة، وبالتالي فإن البرقع يستر ما أسماه الناس مثلما أسموا فرج البهيمة.. واستطرد في باطله وأسهب، ولم يلتفت لحظة إلى أن الناس تصف "قليل الأدب" بأنه "قليل الحيا" أي ناقص الحياء، وأن العامة في حكاية البهائم إياها استخدموا لفظ "الحياء" بعد أن حذفوا الهمزة مثلما يحذفونها عند استخدامهم لفظ "أشياء"، إذ كان في المدارس خلال زمن قديم نسبيا مادة اسمها "أشيا وجغرافيا" أي "أشياء وجغرافيا" وكان الطلاب والأهل والمدرسون يحذفون الهمزة تخفيفا.. بل إن هناك كتابا مهما مشهورا في التاريخ الإسلامي اسمه "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا" كتبه المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي عن تاريخ الفاطميين.. فقد حذف الهمزة من كلمتي الحنفاء والخلفاء.. أما الحويني فقد تفرد بجهل عصامي يليق بسحنته.. ويليق بعقله الذي لم يتذكر لحظة واحدة أن المسلم ليس سبابا ولا لعانا ولا بذيئا، وأنه من سلم الناس من يده ولسانه.. وهو قد ساوى بين وجوه البشر ونعالهم، ولم ولن يدرك كيف هو النهي الغليظ عن إهانة الوجه.. وجه الإنسان.. عموم الإنسان.
                          

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 مايو 2017.

No comments:

Post a Comment