Wednesday, 10 May 2017

..هناك ما لا أستطيع نشره!




تلقيت تعليقات كثيرة على ما كتبته الأسبوعين الفائتين عن الصحافة وركزت فيه على مثالب وضع المهنة، خاصة العنصر البشري في مكوناتها، ولم أفاجأ بتوجه كل التعليقات إلى تأكيد ما ذهبت إليه، بل إن بعضها استفاض في الأمر حتى إنني لا أستطيع نشر ما كتبه الأستاذ صلاح سعد، الذي انتقى عينات صحفية من مراحل مختلفة ورشق الجميع بطريقة "من المنقي يا خيار"، ولو كان الأمر- أي أمر نشر كل الآراء، مهما كان شططها- بيدي لما ترددت لحظة في ذلك، لأن أول العلاج للالتهابات التي ضربها الصديد هو اعتصار القيح بقوة حتى تخرج ما يسميها العامة "أم القيح"، وبعدها يأتي الدم، ليتأكد أن الكرات البيضاء التي ماتت وتصددت قد ذهبت وتدفقت الكرات الحمراء لتؤدي وظيفتها الخطيرة!

من بين ما تلقيت رسالة من الزميل الصديق محمود الشربيني، الصحفي النابه الجاد، كتب فيها: "يقولون لك يا أستاذنا أن كلامك موجع؟ فما بالنا لو قلت الكلام الموجع بحق؟ ماذا يقولون بل وماذا سيفعل الآخرون حتى فعل مبارك بمصر كلها بعد بضع سنين من حكمه كان لا يزال لدينا منارات صحفية وشيوخ مهنة حقيقيون.. كان لدينا عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ ومصطفى بهجت بدوي ولطفي الخولي "قبل كوبنهاجن" وصلاح عيسى "قبل جريدة القاهرة" ومحمد سيد أحمد ومحمود أمين العالم وكامل زهيري وربما أسماء أخرى هنا أو هناك.. ومنذ أن أهان مبارك الدكتور الباحث محمد سيد سعيد وعصر الإهانة الصحفية مستمر، والشيوخ لا يطاولون بما يكتبون أعناق بعض الكتاب لا أقول الصغار ولا أقول الشباب وإنما أقول الكتاب الجُدد.. لقد مسخ حسني مبارك مهنة الصحافة ومنح شيوخا (!!) مفترضين للمهنة الهدايا والعطايا ومنحهم صفوت الشريف اللاشرف فتهاووا وسقطوا ولم يعودوا يعبؤون سوى بالهدايا والعطايا والمتعة، فكان طبيعيا أن يمتطوا المهنة لمصالح شللية وخاصة جدا، ولم يعد معيار العمل الصحفي هو الجد والدأب والحقيقة المجردة والفكرة المتفردة غير المسبوقة.. وبمرور الوقت اعتاد الصحفيون من الأجيال الجديدة على هذا الواقع المخزي وتراجع الشيوخ عن دورهم وتقدم المتمصلحون لتبوؤ المشهد والتمتع بالامتيازات والتنطع على أبواب السلاطين والحكام.. فدهست المهنة بالأحذية ووصلت إلى ما نحن فيه.. فصحفي الحوارات الفنية الهابطة الممجوجة رئيس تحرير لكبريات الصحف الناشئة اعتمادا على بعض الأقلام "كتيبة يعني"، ثم مذيع في فضائية ذائعة الصيت.. ومحرر الديسك خفيف الظل أصبح فجأة مقدم برامج "أي كلام" ويستضيف الكبار ليكبر على قفاهم.. ناهيك عن محدثي الفضائيات من الصحفيين الأمنجية، وأظن وبعض الظن ليس أثمًا أن أغلب نجوم العصر من الإعلاميين لم يقرأوا كتابا ولا يعرفون أن هناك زكي نجيب محمود وهناك نجيب محفوظ ولا وجود لزكي نجيب محفوظ مطلقا.. لقد أدى تشويه مبارك للصحافة والثقافة وتجميده للحياة الثقافية بكل روافدها إلى تحول الجميع عن صحافة بطعم الدموع وعطر العرق إلى صحافة الغرق في الملذات، فذهبوا وذهبنا جميعا إلى حيث اصبحنا سطورا في مقالك تشخص بها حالنا وأحوالنا المهنية المريعة.. تحياتي لك حيث أنت وحيث تبقى وحيت تكون".

ولقد نشرت رسالة الزميل محمود الشربيني كما هي بمرارتها، ولديّ أكثر من ثلاثين تعليقا مكتوبا غير ما كتبه الزميل، بعضها لا يمكن نشره في الأهرام كما أسلفت، غير أنه كما كتب زميلي الأستاذ أحمد أبو المعاطي من ضمن رسالة طويلة: ".. أنه ملف يحتاج سلسلة من المقالات لأن الوضع جد خطير والرؤى غائمة إلى حد بعيد ولعلها تدفع بمهنتنا- إذا ما استمرت الأوضاع والأفكار والصراعات على هذا الحال- إلى غياهب النسيان"!

ولأن المساحة ضيقة فإنني أحتفظ بتعليقات الزملاء والقراء التي لم أنشرها هنا لمرات قادمة، لأنها تمثل جزءا من تشخيص وعلاج مشاكل مهنة الصحافة خاصة والإعلام بوجه عام.

ويبقى أن نترك الفرصة كاملة للمجالس التي تم تشكيلها لكي يكون معيار تقييمها هو منتج أعمالها وليس شخوص أفرادها وتاريخ بعضهم، رغم أن البعض قد لاحظ أن صاحب القرار إذا أراد أن ينكل بأصحاب حرفة من الحرف أتى إليهم بمن سبق ورفضوهم وظنوا أنهم دفعوا بهم خارج الحلبة فإذا بهم عائدون في ثوب الخصم والحكم في آن واحد، وقد سبق وفعلها السادات عندما عين وزيرا للعدل كان قد أسقطه القضاة في انتخابات رئاسة ناديهم قبل تعيينه وزيرا بأيام قليلة.. وربما يكون للحديث صلة.
                         

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 11 مايو 2017.

No comments:

Post a Comment