مع الاعتذار مسبقًا للسادة القراء- والحقيقة أنه
قارئ واحد عقّب سلبيًا على مقال الأسبوع الفائت في صفحة الفيس بوك- الذين يرون في
الكتابة عن الذكريات والأوضاع المجتمعية التي عاشها كاتب ما، هروبًا من مناقشة
القضايا والمشاكل التي تمسك بخناق المجتمع، فإنني أستأذن في الاستطراد بتقديم وجبة
أخرى من وجبات الصيف الخفيفة، لأننا ما زلنا نتذكر البطيخ والجبنة البيضا والعيش
الناشف والجرجير كمكونات لتلك الوجبة الخفيفة التي تملأ بطوننا ولا ترهق أكبادنا
ومرارتنا! وربما كانت مقبلات الوجبة هذه المرة هي أن الغالبية من المصريين كانت
وجباتها معظم أيام السنة من النوع الخفيف، لأننا إذا اعتبرنا أن دخول البروتين
الحيواني من ضأن وماعز وبقر وجاموس وإبل وأرانب وبط وأوز وحمام ودجاج وسمك هو
معيار تحول الوجبة من خفيفة إلى ثقيلة، حيث كان لا بد مع اللحمة من طبيخ مسبك وأرز
أو فتة بالزبد ومشتقاته، فإن اللحم والزفر والسمك لم يكن يدخل بيوت الغالبية التي
أعرفها وكنت منها إلا في المواسم، وهي العيدان الكبير والصغير ومولد النبي
والرفرافة- أي رأس السنة الهجرية- وسبعة وعشرين رجب- أي الإسراء- ونصف شعبان، ثم
تتكثف قليلا في شهر الصيام، ثم عاشوراء! ولأجل ذلك تفنن الناس في الأرياف وبعض
المدن في اختراع مناسبات من أجل حكاية اللحم والزفر والسمك، فكانت بعض الأسر تقيم
ما يسمى "الليلة"- فلان عنده ليلة- بمناسبة نذر لا يفصح عنه، أو ميلاد
ولد ذكر، أو طهوره، أو لأهل الله عموما، حيث كانت "الليلة" تبدأ بترتيب
المكان، خاصة إذا كانت ستقام حلقة الذكر، ويكون هناك مقرئ ومنشد، ثم تتوالى
الوقائع إلى أن يمد السماط أو توضع الطبالي أو تتجاور الموائد الخشبية المستأجرة،
وترنو العيون لحامل أنجر اللحم المتراصة هبره أو الدجاج المزدحمة أجزاؤه! وكانت
وجباتنا معظم العام خفيفة- أي والله- لأنها كانت طبيخا بدون لحم ولا زفر، اللهم
رائحة دهن اللية المختزن لتقلية الثوم والبصل فيه.. كان الطبيخ "قافرًا"
ولا أدري من أين جاءت "قافر"، وهل هي كافر ثم انقلبت الكاف قافا، وهو
مباح وميسور في لغتنا الصعبة الجميلة.. يعني "ملوخية" أو
"خبيزة" أو "رجلة" أو بامية" أو قرع أو باذنجان- وكلها
كانت تونع في الصيف الطويل- يؤتى بها من حواف الحقول، حيث تنبت الملوخية والخبيزة
والرجلة طبيعيا، يعني شيطاني أو رحماني حتى لا يزعل المؤمنون، وأفضل هذه الورقيات
ما كان يؤخذ من الأرض "الشراقي"- أي غير المروية لفترة طويلة وبدأت في
التشقق- ويبدو والله أعلم أن حلاوة طعم نبات الشراقي كان مصدرها أن عصارة النبات
مركزة جدا في أوراقه وسيقانه لأنه لم يرتو منذ فترة طويلة.. وكانت المحسنات
البديعية لهذه الوجبات القافرة أو الكافرة تتعدد حسب جهد ست الدار، حيث كانت تلجأ
بعضهن إلى وضع شوية أرز مع الخبيزة والرجلة أو تقديم باذنجان مخلل بعد دحرجته في
الزيت المغلي وتطعيمه بالثوم والشطة الحمرا.. والحرص على أن يكون العيش المقدم
طريا ليتمكن الآكلون من تحويل اللقمة إلى "ودن قطة"- أذن- لتحمل مزيدًا
من الغموس من الملوخية اللزجة التي تنزلق من على العيش إذا لم يتحول لـ"ودن
قطة"!
وقبل أن أنتقل إلى صلب الموضوع، وبمناسبة الأكل
وتقاليده لا بد أن أحكي هذه الواقعة، حيث دعانا الأستاذ محمد حسنين هيكل صيف 1976-
الأستاذ محمد سلماوي، والنائب كمال أحمد، وأنا- إلى تناول الغداء معه في شقته بحي
ستانلي بالإسكندرية، وكانت تقع في شارع جانبي بالقرب من الكورنيش ومطعم "كوت
دازور" الذي بقيت رفاته قائمة للآن، وكان الموعد هو الثالثة بعد الظهر،
ونتيجة للمواصلات والزحام وصلنا في الرابعة، وكان الأستاذ غاضبا مزنهرًا من هذا
السلوك غير المتحضر! وقبِل الاعتذار وأمر بالمائدة، ودخلنا وبدأ عم
"عبده" السفرجي البدين نسبيا قصير القامة نسبيا أيضًا في وضع طبق ورفع
الذي قبله، وعند صنف معين كان حضرة السفرجي يغرف منه ويضع في صحوننا، بادرت
لسؤاله: "إيه ده؟!"، وتجمدت ذراع الرجل بالمغرفة ونظر صامتا لصاحب الدار
الأستاذ الكبير الذي بادرني من فوره: "فيه إيه يا فلان.. ما تأكل وأنت ساكت..
وإذا كنت عاوز تعرف تذوقه واعرف بنفسك".. وضحك! وبالفعل مددت الشوكة إلى
القطعة الأولى من عدة قطع مخلوطة في صوص لا أعرفه ومضغتها ببطء، فيما الأستاذ
وبالطبع بقية الحضور ينظرون لهذا السائل الغشيم الذي لا يعرف آداب الأكل عند
الكبار ولا كيف يتعامل مع حضرة السفرجي! وبروح الدعابة الساخرة الكامنة والكثيفة
لدى الأستاذ هيكل سألني من فوره ثانية: "هيه.. طلع إيه يا سي أحمد"؟!،
وقلت من فوري أيضا: "حلو جدا كبد وقوانص معمولة حلو قوي".. وعندها ألقى
الأستاذ بالفوطة وأدوات المائدة التي كانت في يده وانفجر في موجة ضحك هادرة..
وسألني "اشمعني الكبد والقوانص"، وأجبت أصلي أنا طول عمري أحبها وشبه
محروم منها، حيث كانت كبدة واحدة وقناصة واحدة للفرخة التي كانت توزع علينا، فكل
واحد فتفوتة أو تختفي من أساسه لتذهب لصاحب النصيب! الذي أعرفه ولن أقول من هو!
ورد الأستاذ بسرعة للإنقاذ حتى لا أستفز وأتحول
إلى الهجوم إذا صرت مسخة القعدة "لا يا سيدي.. دا اسمه مشروم.. يعني فطر عيش
الغراب، وفيه بروتين زي الكبد والقوانص"! ثم حصة شرح بعد الغداء حول زراعة
المشروم، الذي انتهى أيضا بطرفة أخرى وهي أن عم عبده السفرجي وضع وعاء بلوريا فيه
الفاكهة، وكانت تينا وكمثرى وعنبا وبرقوقا.. ثم بدأ يحمل أوعية صغيرة يحملها
مساعده على صينية ويضعها أمامنا.. والوعاء أقرب إلى السلطانية الصغيرة وفيه شوربة!
واحترت في البداية وبحثت عن ملعقة أخرى غير التي رفعها السفرجي فلم أجد، وكان
الأستاذ قد استمرأ اللعبة.. فسألني قبل أن يتعامل هو مع ذلك الوعاء: ما تتفضل؟!
وسألت: أين الملعقة؟ فانفجر ضاحكا ثانية.. ومد يده إلى برقوقة أكلها ثم مد أصابعه
في السلطانية التي تبين أن ما فيها هو ماء لغسل أطراف الأصابع بعد التفكه، أي أكل
الفاكهة!
متأسف.. لم أدخل في الموضوع.. وأؤجله للأسبوع
المقبل!
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 16 أغسطس 2017.
No comments:
Post a Comment