"سد
الفجوة بين قصور الواقع وبين طموح الآمال"، عبارة توقفت عندها طويلًا فيما
كنت أقرأ نص كلمة الرئيس السيسي في الاحتفال بعيد العلم، لأنني أعتقد أن هذه
الفجوة هي الثقب الأسود الذي يبتلع كل ما يصادفه من إنجاز، أو حتى تفكير في إنجاز،
وأستأذن القارئ الكريم في أن أذهب إلى أن "قصور الواقع" في فهمي
المتواضع يتجاوز ما هو مهم من إمكانيات مادية وتقنية وظروف صعبة تحيط بالعملية
التعليمية والبحثية في مصر إلى ما لا يقل أهمية، بل ربما هو الأهم وأعني به منظومة
القيم والأخلاق والتقاليد والسلوكيات، التي أصابها العطب، فأصبحت مثلما يقول أهلنا
البسطاء "مخوخة"، أي جوفاء لا لب فيها ولا عصارة!
ومن الطبيعي أن معظمنا
يحفظ أو يتذكر ما قيل عن الأخلاق من قبيل "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن
هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، و"صلاح أمرك للأخلاق مرجعه... فقوم النفس
بالأخلاق تستقم"، وقد يضحك البعض ساخرًا من حكاية "الأخلاق" هذه،
إما باعتبارها كلامًا باليًا فيه عمومية ومثالية ولم يتحقق يومًا على أرض الواقع،
أو لأنها تتردد أكثر ما تتردد على لسان أعتى مخالفيها وبطريقة الراحل المبدع توفيق
الدقن "أحلى من الشرف مافيش"! أو لأسباب أخرى تجل عن الحصر.
ورغم ذلك أظننا مدعوين
لمناقشة "قصور الواقع" في جامعاتنا ومراكزنا البحثية، وفي جميع المواقع
التي يحتل صدارتها من حازوا أرقى الدرجات العلمية وأعلى الجوائز الأكاديمية،
وبالمستوى نفسه مواقع أخرى يحتل صدارتها من يعتبرون عند أنفسهم وعند المجتمع صفوة
أو نخبة أو بالعامية أيضًا "الكريمة"، التي تزين وجه التورتة!
قصور الواقع فيه ما
يتصل أولًا بالعلاقات البينية بين الأساتذة والأساتذة المساعدين، والمدرسين
والمدرسين المساعدين، والمعيدين وبين كل هؤلاء، وبين المكتبة والمعمل ومناهج البحث
والطلاب.
وقصور الواقع فيه ما
يتصل ثانيًا بالعلاقة بين العلم وبين الثقافة، ومنها الشأن العام، أي مشاكل
المجتمع على كل الأصعدة، والمدى الذي تنتفي فيه حكاية البرج العاجي، وأيضًا تتلاشى
فيه شبهات الشكلية والتغطية على التقصير الأكاديمي بشعبية مصطنعة!
ومن قصور الواقع ثالثًا
غياب خطوط التواصل والتكامل بين ما يفترض أنه البؤر الرئيسية للنهضة في أي مجتمع،
وهي الجامعات والمكتبات وأكاديميات ومدارس الفنون، ثم وبالأهمية نفسها الرأسمالية
الوطنية، ممثلة في أصحاب رؤوس الأموال والمصانع والبنوك وغيرها، والكارثة الخطيرة
هي أن علاقة بعض رؤوس الأموال في مصر بالعملية التعليمية الجامعية تحديدًا جعلتها
علاقة تربح فيه فحش الجشع والجهل معًا، والأمثلة كثيرة ليس المجال مجال التفصيل
فيها.
ثم يأتي الوجه الرابع
من أوجه قصور الواقع، وهو الازدواجية المخيفة في العملية التعليمية ومن ثم العلمية
والبحثية، لأننا نعيش منذ عصر محمد علي باشا الكبير ازدواجًا بين مؤسسة تعليمية
تقوم مناهجها الأصلية على الحفظ والاستظهار وتقدم النقل على العقل أو تساوي بينهما
في أقصى تقدير، وبين مؤسسة أخرى تقوم مناهجها على الفهم والنقد وتعتمد العقل
سبيلًا رئيسيًا للحياة كلها، ثم ازداد الطين بللًا أو البلل طينًا بازدواجيات من
نوع آخر تلاشى فيها الاهتمام باللغة الأم، أي العربية، وبالتاريخ الوطني بل وبكل
ما يتصل بالجوانب الحضارية والثقافية لمصر، ولأن المساحة قاربت على الانتهاء،
وبقيت مسألة أجدني حريصًا على الكتابة فيها، فإنني أختم بأن الإشادة بالشهادة
للدكتور إسماعيل سراج الدين، الإنسان والعالم والمثقف والخبير والدور لا تعني
مساسًا ولا تعقيبًا على حكم قضائي قابل لأن تنظر فيه محاكم من درجات أعلى، وقد
أصدرت مكتبة الإسكندرية بيانًا موقعًا من رئيسها الأستاذ الدكتور مصطفى الفقي فيه
إشادة بالرجل وبدوره، وكتب أكثر من كاتب في الاتجاه نفسه، وهنا أضم صوتي لمن
تفضلوا وسبقوني في الوفاء للدكتور إسماعيل الذي اقتربت منه في غير موقف فعلمت
قيمته وقدره، ومدى حبه وارتباطه بوطننا، ثم مدى ما لديه من مشاعر ومواقف إنسانية
رفيعة وسامية.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 10 أغسطس 2017.
No comments:
Post a Comment