في أغسطس تتذكر جلود
معظم الفلاحين أمثالي ذلك الالتهاب الذي كان يضرب ظهورنا وأكتافنا وصدورنا فيجعلها
"محبحبة"، لدرجة تقترب من "الفأفأة" ولونها أحمر، جراء
الإصابة بما كان يسمى "حمو النيل"، وكان العلاج المعتاد لترطيب الجلد هو
مسحات متكررة بالجانب الداخلي الأبيض من قشر البطيخ! وكان النيل في حياتنا ماثلًا
طيلة شهور الفيضان، وأيضًا شهور التحاريق أو انخفاض المنسوب!
وحتى الآن لا أعرف
لماذا كان الشاي المغلي في مياه النهر مباشرة له طعم مختلف عن مثيله في مياه
الطلمبات أو الحنفية، ولماذا كان الطمي يفرش كوسادة سميكة تحت ثمار البطيخ المخزنة
في حجرة "المقعد" العلوي فتبقى البطيخة طازجة حتى الموسم التالي، اللهم
إلا بعض البذور التي تبدأ في "التنبيت" داخل الثمرة! ولا لماذا كانت
السيدات "العايقات" تفضلن دعك السيقان والأقدام بهذا الطمي، وهي مدلاة
في "الموردة" فتخرج لامعة ناعمة عفية، يكاد الدم أن "يُبك"
منها! ولا أعرف أيضًا لماذا كان الإصرار عند بعض الأسر على إلقاء "مشيمة
"الطفل المولود حديثًا في مجرى النهر بعد أذان الفجر مباشرة! ضمانًا لسلامة
المولود صحيًا ولكي يطول عمره ولا يصيبه نشفان الريق يومًا من الأيام!
وفي أغسطس يندهني
النيل، رغم الود المفقود بين فرعي دمياط ورشيد وبيني، فقد جرف تيار الفيضان الأحمر
العارم الجاموسة التي كنت أمسك بـ"رواستها"، وهي تعوم بالقرب من الشاطئ،
فلما مرت عربة نقل يكركر موتورها كركرة عالية جفلت الشابة الجاموس، ونزعت الرواسة
من يدي ليجرفها الفيضان، ولولا ستر ربنا لما عادت، والمصيبة أنني كنت ضيفًا على
أصحابها في قرية ميت أبو الحارث مركز "أجا" دقهلية، حيث كنت أذهب كل سنة
لزيارة إخوتي في "الطريق" من الدراويش المتصوفين الأجلاء!
أما الود المفقود مع
فرع رشيد، فهو قديم متعدد المراحل التي كانت أولاها في النصف الأول من الخمسينيات،
وكنت في زيارة خالتي الكبرى نبيهة التي كانت متزوجة من أحمد أفندي إسماعيل كركوتلي
تاجر الأقطان وكانا مقيمين في قرية الصافية مركز دسوق فؤادية آنذاك وكفر الشيخ
فيما بعد! وكان العيال قد تسابقوا لخلع الملابس بلابيص، وأخذوا يقفزون في فرع رشيد
أثناء الفيضان، بعد أن يرتد كل منهم مسافة عدة أمتار ليجري مندفعًا، وكلما كانت
"النطة" طويلة في مجرى النهر صفق الآخرون.. وفعلت مثلما فعلوا لأجد نفسي
في القاع ثم "أقب" و"أغطس" إلى أن أمسك بي أحدهم وسبح باتجاه
الجسر - أي الشط - ومد يده ليمسك بأعواد نبات "النسِّيلة" ليثبت أمام
عنف التيار، وإذا بالنباتات تنتزع، وتتكرر المحاولة حتى خرجنا وقد أنقذني من
الغرق، وليموت هو بعد ذلك شابًا يافعًا متخرجًا لتوه في كلية التجارة، فيما كان
ساجدًا يصلي الصبح قبل توجهه لعمله!! ويبقى الغريق المنقذ حيًا ليتجاوز السبعين!
ويستمر الفشل في تعلم العوم حتى بعد "الركلة" لأعلى التي أخذتها لأستطيع
ذات عام منذ زمن الاشتراك في حمام سباحة هيلتون النيل، ويبدأ مدرب السباحة في
تدريبي بتوصية من مستر كحول، مشرف الحمام والكبائن من حوله، وهناك صادقت الراحل
الجميل المبدع نور الشريف، الذي كان يقف مثلي في ركن حوض السباحة، لأنه لا يجيد
السباحة، وكانت فرصة لحوارات طويلة وممتعة.. وهناك أيضًا كنت أترقب نزول أستاذ
الطب الدكتور محمد فياض قبيل المغرب للسباحة ومعه ذلك الوزير اللبناني السابق،
الذي كان يقيم إقامة شبه دائمة في كبينته المطلة على حمام سباحة الهيلتون!
ثم كانت المرة التالية
من الود المفقود مع فرع رشيد يوم كنا نزور سيدي إبراهيم الدسوقي، وفجأة جاء اقتراح
من أحد إخواننا الطيبين بناء على هاتف باطني ناداه بأن زيارة أبي العينين لا تكتمل
إلا بصلة الرحم، ومن ثم زيارة والده سيدي أبي المجد.. ولم نكذب الخبر وبسرعة إلى
أقرب مركب شراعي سيتجه جنوبًا من دسوق إلى "مرقص"، حيث مرقد سيدي أبي
المجد، ولأن الريح الآتية من الشمال كانت صرصرًا عاتية فقد كان الموج يدفع الماء
الأكثر عتوًا إلى حافة المركب ومنها إلى ملابسنا، وأخذت المركب تعلو وتهبط وكأنها
عربة كارو في مدق مليان مطبات، وعلا الشهيق، ثم تهامس الدعاء ليعلو بعدها صوت
الاستعاذة من وعثاء السفر وسوء المنقلب، ووصلنا ونزلنا ودخلنا المسجد البديع على
شاطئ النهر وصلينا العصر، وعدنا إلى المركب الشراعي، الذي ركب الماء القادم من
الجنوب، فيما الريح شمالية، وكان المسار زجزاجيًا على سطح المياه، لأتردد بعدها
ولسنوات طويلة في ركوب المراكب الشراعية تحت أي ظرف.. ويا وقعتي غير البيضاء إذا
تصادف وكان ضيوف من الخارج، وأراد أحد من قبيلتي أن يمارس الكرم فتأتي العزومة على
فلوكة في النيل!!
كنا نقاوم "حمو
النيل" أيام الفيضان في أغسطس وبعده بقشر البطيخ، وأصبحنا غرقى في الطفح
السياسي والصحافي.. وكنا ندعو بالسلامة من وعثاء السفر المنقلب، والآن ندعو بألا
يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا!!
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 أغسطس 2017.
No comments:
Post a Comment