كان تعمد الخلط بين
المطلق الديني وبين النسبي الإنساني، هو وقود الفتنة الكبرى التي أعتقد أن جذورها
كانت كامنة منذ فتح مكة، حيث كان هناك مهاجرون وأنصار وطلقاء، ثم نمت قليلا يوم
السقيفة، إلى أن جاء الانفجار في خلافة عثمان، وأظن أن موجاته مازالت مستمرة إلى
الآن.. وهي الفتنة التي تورط فيها بعض كبار الصحابة ومنهم مبشرون بالجنة، وتورط
فيها تابعون وتابعو تابعين ومن تلاهم، وبالطبع كان هناك نكرات لا يتوقف التاريخ
أمام أسمائهم هبوا لمساندة ذلك الطرف أو ذاك الاتجاه لمآرب غنائمية من مال أو جاه.
وفي اعتقادي أن ثقافة–
تجاوزا – الفتنة الكبرى لم تبق سارية بين أصحاب المرجعية الدينية وحدهم، وإنما
تجاوزتهم لتشيع بين بعض أصحاب المرجعيات الوضعية ليبرالية كانت أم قومية أم
يسارية، حيث تراهم يطلقون الأحكام القيمية المطلقة على الظواهر السياسية
والاجتماعية، ولا يتورعون عن التعصب الأعمى لفكرة أو اتجاه أو فرد أو طبقة، ولا
يستحون عن إهالة التراب والسخام على كل القواعد المنهجية التي تضبط طرق الاقتراب
العلمي من الظواهر الإنسانية، تاريخية كانت أم سياسية واجتماعية!
ولقد تحمست كثيرا في
البداية لقراءة الجزء الأول من مذكرات السيد عمرو موسى، بعد أن استمعت إليه في
جلسة مشتركة عند صديق عزيز وهو يتحدث عن الكتاب وحجم الجهد الذي بذل فيه ليخرج
أقرب إلى الاكتمال، واشتريت الكتاب وبدأت القراءة وفي يدي قلم
"فوسفوري"، وآخر "جاف"، ألون بالأول سطورا وفقرات، وأكتب
بالثاني على الهوامش البيضاء!.. وتهيأت لأن أكتب، إلا أن حالة الاقتتال
"الفتنوي الكبير"– اشتقاقا من الفتنة الكبرى – جعلتني أتردد كثيرا عن
الدخول في المعمعة، خاصة بعد أن استدعت أقلام أخرى نفسها للدخول في
"العركة" وليس "المعركة" وخلط بعضها بين شجاعة الفرسان، وبين
وقاحة الخصيان، وردح البغايا القحاب!.. وهنا قد نتذكر النصيحة الشعبية العريقة
الصادقة "القحبة لا ترازيها ولا ترازيك.. أحسن اللي فيها تجيبه فيك"!،
ولذلك يتعين أن نصرف النظر عما كتبه الذين تصدق فيهم هذه القاعدة!
تلك حاشية أولى على متن
السيد عمرو موسى، أما الحاشية الثانية فهي أننا أمام مصدر مهم لتاريخ الخارجية
المصرية، سواء ما يتصل بتكوين وأداء المؤسسة المسؤولة عنها، وهي وزارة الخارجية
والآليات والعلاقات والضوابط والتجاوزات التي تحكم عملها وتتخلله، أو ما يتصل برصد
أدائها كمؤسسة، أو أداء قياداتها من وزراء ووكلاء وسفراء، وأيضا علاقتها بمؤسسات
أخرى كرئاسة الجمهورية وبقية الوزارات.. ومعلوم أن المذكرات الشخصية شأنها شأن
الروايات الشفهية التي يدلي بها المشاركون في الأحداث، تخضع للقواعد المنهجية التي
أرستها مناهج البحث، فيتم نقدها من داخلها ونقدها من خارجها، وأيضا دراسة شخصية
كاتبها أو راويها من حيث التكوين والتوجه والانحيازات، وأيضا حالته العقلية عند
الكتابة أو الحديث!. ويضاف لذلك مقارنة ما ورد في "الشهادة" سواء كانت
مذكرات مكتوبة أو حديثا مسجلا عن وقائع بعينها وظروف بذاتها مع مصادر أخرى
كالوثائق والدوريات ومذكرات وأحاديث آخرين عاشوا وشاركوا فيما هو مطروح، ولذلك فإن
كلام السيد عمرو موسى في مذكراته ليس تاريخا وليس قولا فصلا وليس الحقيقة المطلقة
التي لا يجوز المساس بها!
الحاشية الثالثة على
متن السيد الوزير الأسبق للخارجية، هي أن كثافة ما كتبه متصلا بأسرته، أي والده
ووالدته وأخاه غير الشقيق، وعن زوج أمه ثم عائلته لأمه وعائلته لأبيه، وما كتبه عن
قرية "محلة مرحوم"، حيث عاشت عائلة والدته، وقرية "بهادة"،
حيث تقيم عائلة والده، وطنطا حيث تعليمه، ومن قبلها الأحياء القاهرية التي عاش فيه
جزءا من حياته، وأيضا شبكة العلاقات الأسرية الممتدة لعائلات ميسورة من الأقرباء
والأنسباء والأصهار، ولقيادات سياسية وفدية بوجه خاص.. وصولا إلى الشبكة الأكثر
اتساعا في كلية الحقوق وفي الخارجية، هي أمور تجعل الأمر محتاجا لمن لديه إلمام
بالأبعاد الاجتماعية للحياة في الريف المصري، وخاصة بين كبار الملاك الزراعيين
وبين بقية الهرم الاجتماعي، وإلى من لديه تخصص في علم النفس التحليلي، وفي الطب
النفسي، وأيضا علم النفس الاجتماعي، لا لشيء إلا لأننا أمام عبقرية متصلة من
الطفولة إلى الكهولة، وأمام ذات تكاد تكون مما يوصف بأنه "واجب الوجوب
لذاته"، وأمام تكوين بشري له سحر خاص يحقق له نبوءات عظمته، ويكفل له سريان
خواطره إلى عقول غيره بما يفوق مسألة التخاطر بكثير!
الحاشية الأخيرة في هذه
المساحة- تمهيدا لما سيأتي بعد ذلك- هي أن السيد عمرو موسى خلال تلك الجلسة الطيبة
لدى صديقنا المشترك، أكد أن الكتاب خلو من أية أخطاء أو هنات لغوية، وأشهد أنه
كذلك اللهم إلا بعض التدقيق في استخدام أسماء الإشارة والخلط بين الإشارة إلى زمن
معاش أو قريب وآخر بعيد، حيث يفضل للقريب "هذا أو هذه" وللبعيد
"ذلك أو تلك".
تلك مقدمة أبدأ بها
وبعدها لكل حادث حديث، ثم إنه لمن قد يسأل عن "الحاشية" و"المتن"،
فإن الحاشية في اللغة هي جانب الشيء أو طرفه، وهي ما علق على الكتاب من زيادات
وإيضاح، وهنا أذكر أن أول من كتب حاشية نقدية يناقش فيها المتن ويختلف معه كان
الشيخ حسن العطار، بعدما كانت الحواشي كلها شرحا مملا.. أما المتن فهو ببساطة النص
الذي يحويه الكتاب، أو هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من كلام.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 11 أكتوبر 2017.
No comments:
Post a Comment