ربما لمئات المرات أكدت
في مقالاتي أنني مع من يذهبون إلى أن التاريخ لا تصنعه المؤامرة، ولكنه لا يخلو
منها، خاصة إذا فهمنا المصطلح، أي "المؤامرة"، على أنه تخطيط متكامل
يقوم به طرف ما من أطراف صراع معين ليواجه به خصمه، أي الطرف الآخر، ولأن هذا
التخطيط يحتوي وسائل وسبلًا غير أخلاقية فإنه يأخذ طابع الخفاء، وأكاد أتيقن من أن
"مؤامرة" - بالمعنى الذي أوضحته - استهدفت التكوين الوجداني المصري خاصة
والعربي عامة والإسلامي بوجه أكثر عمومية؛ مؤامرة قائمة ومستمرة ومحكمة التخطيط
ودقيقة التنفيذ، وتعتمد أكثر ما تعتمد - لكي تؤدي دورها- على غفلة أصحاب الشأن
وغياب فطنتهم لما يُفعل بهم!
على الصعيد الاقتصادي
لا نحتاج لمن يتآمر علينا، فقد كانت لحظات سوداء وصلنا فيها إلى ما تحت القاع..
وعلى الصعيد السياسي ابتلينا بحكومات ونخب ورؤساء لم يلتفتوا إلى أن مصير الوطن
بين أيديهم، ووصلت الممارسة السياسية إلى ما نسميه نحن "تجريفًا
شاملًا"!
وعلى الجانب الاجتماعي
شق الشقاق طريقه في لحمنا لنتفتت ونتفكك على نحو عرفناه ونعانيه في كل الأوقات..
وبقي الوجدان هو حائط الصد الأخير الذي حاولنا الاستناد إليه، حيث وجداننا سبيكة
متعددة الطبقات متينة السبك، فيها يمتزج التراث المتراكم من مصر القديمة إلى مصر
الهللينستية، إلى مصر القبطية المسيحية، إلى مصر القبطية الإسلامية، ثم مصر
الحديثة والمعاصرة مع المعتقد الديني مع الفلكلور الأسطوري، مع منتوج ما قد أسميه
الحتمية الجغرافية الحافلة بالعلاقات بين النهر والبحر والخضرة والصفرة وغيرها!
وبعد أن تمت
"دحدرتنا" اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا كان الاتجاه لوجداننا لتمزيقه
بدوره هو الآخر، بحيث لا يبقى لنا ملاذ نلوذ به ويحمي ظهرنا فيما نحاول الاشتباك
لتخليص أنفسنا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.
إنني متيقن الآن أن
المدخل الذي قررت المؤامرة أن تنفذ منه إلى صميم وجداننا هو الدين، الذي لعب دوره
الجوهري في صميم وجودنا، منذ اكتشفنا أو اخترعنا الأبدية، وأسسنا لكل ما جاء في
العقائد الدينية بعد ذلك، ومن أسف أن تمزيق وجداننا وصل الآن إلى النخاع وتدميره،
بحيث لا يمكن أن تقوم قائمة لما أسميه جهاز المناعة الوطني!
فبعد التمزيقة الأولى
إلى مسيحي ومسلم توالت التمزيقات داخل "المسيحي" وداخل
"المسلم"، فسمعنا أصواتًا منا تقول إن غير الأرثوذكسي الأثناسيوس ليس
مسيحيًا قويمًا، وأن غير السني الأشعري أو السني الحنبلي ليس مسلمًا صحيح الإيمان!
ثم ها نحن داخل
"الأشعري" نفسه نعيش تمزيقة شديدة التهتك، لأنها تستهدف العقل السليم
والفطرة السوية، بعدما تمطى بعض من يحملون درجات جامعية - ولن أقول علمية - عالية
يعني دكتوراه وبعدها أستاذية مساعدة وأستاذية كاملة في فروع المقررات الشرعية
"فقه – أصول – حديث - تفسير" وغيرها، وأخذوا ينخعون فتاوى عن التداوي
ببول بعض البهائم، وعن مضاجعة الأموات، وعن إتيان الحيوانات، ومن قبل ذلك عن أجنحة
الذباب، وعن التناكح بين الجن وبين الإنس، وعن شكل المولود من جماع كان فيه الذكر
عاري البدن، إلى آخر ما لن يكون له آخر والعياذ بالله!
كنا مع بعض خصومنا في
الإقليم - وأقصد الدولة الصهيونية - قد وصلنا إلى ردع متبادل، بعد أن كنا لوقت ما
طرفًا مفعولًا فيه وفقط، ويقيني أن الطرف الآخر اكتشف أن سلاحنا الأساسي الذي
أوصلنا لمرحلة الردع المتبادل كان تماسكنا الداخلي من حول جيشنا بعد 1967،
وتوظيفنا لكل مقومات ومكونات وجداننا، لتصير قوة هائلة تربط مداميك مجتمعنا ربطًا
محكمًا، ومن ثم تم الترتيب بالتخطيط لدفعنا إلى هاوية مستنقع التدين الزائف
والخلافات الدينية والمذهبية العدمية، وأيضًا إلغاء العقل وطمس البصيرة.. وهو ما
تم بالفعل.
والعملية بعد ذلك -
فيما أعتقد - ليست اجتهادًا فيه صواب يستحق أجرين وخطأ له أجر، وإنما العملية هي
مشاركة بغير وعي غالبًا، وبوعي أحيانًا، في تحويل المؤامرة من تخطيط إلى واقع،
وبأيدينا نحن وبألسنتنا نحن، ومن معاقل نعتقد أنها بمعزل عن إلغاء العقل وطمس
البصيرة.. وتلك هي المؤامرة.. أن نقتل أنفسنا بأنفسنا، حيث نجد على الناحية الأخرى
تماسكًا لا يقبل أي ثغرة حول هدف محدد، هو وجود وتماسك وقوة الدولة الصهيونية،
وتفوقها عسكريًا وعلميًا وتقنيًا واقتصاديًا على كل محيطها، رغم وجود خلافات مذهبية
ونتوءات ثقافية ومنحدرات إثنية، وألغام نصوصية عقائدية بين مكونات المجتمع
الصهيوني!
هذه هي الكارثة التي لا
بد أن نواجهها.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 4 أكتوبر 2017.
No comments:
Post a Comment