لم أكتب مقال الأربعاء
الفائت، لأنني تهيبت الكتابة عن مذكرات محمد سلماوي "يومًا أو بعض
يوم.." الصادرة عن دار الكرمة 2017، وكان لي شرف تلقي دعوته لحضور حفل
التوقيع، الذي ضاق مكانه الفسيح بالحضور من مثقفي مصر ونخبتها الفكرية والسياسية،
وليس عندي سر يكمن وراء ذلك التهيب، اللهم إلا الوفرة الوفيرة من المشاعر
والمعلومات والذكريات التي عشتها مع ما كتبه الأستاذ سلماوي، وعشتها من قبل في
"يومي أو بعض يومي" أي مسيرة حياتي، لأنني من الفئة العمرية نفسها التي تجمع
بين الكاتب وبيني، فهو من مواليد 1945 وأنا من مواليد 1946.
وأقول الفئة العمرية
وليس "الجيل" حتى لا أقع فيما تندر عليه وسخر منه صديقي وأستاذي الراحل
البديع كامل زهيري، الذي كان يمقت كثرة الحديث عن "صراع الأجيال" وخبرات
الأجيال وخصوصيات جيل بذاته، وكان يقول "لقد أصبح لدينا توظيف الأجيال مثلما
كان لدينا توظيف الأموال"! ومع العمر جمعتني وصاحب المذكرات جوانب أخرى فيها
الجغرافيا والتاريخ والفكر والسياسة.. والاقتصاد!
لأنني
"اقتصاديًا" ما زلت مدينا للأستاذ سلماوي بمائة وخمسين جنيهًا، اقترضتها
عام 1978 لأستكمل مقدم وخلو شقة صغيرة في شارع أحمد عصمت، تضمني وأسرتي الصغيرة،
إذ لم يكن لنا بيت يؤوينا، وكلما تقابلنا أكرر الاعتذار نفسه عن عدم السداد، وأضيف
أن المبلغ قد أصبح آلافًا مؤلفة من الجنيهات، بحكم أن جرام الذهب 18 عام 1978 كان
بحوالي عشرة جنيهات، والآن اقترب من الخمسمائة وخمسين جنيهًا، أي أن مبلغ المائة
وخمسين أصبح أكثر من ثمانية آلاف جنيه!
ناهيك عن أنني وآخرين
مدينون للرجل وزوجته الفاضلة- الفنانة نازلي مدكور- بوجبات طعام فاخرة كانت تأتينا
في سجن الاستئناف، وكانت زوجته تضع كميات تكفي لثلاثة عشر جائعًا وليس لواحد فقط،
ومع الوجبات رأيت لأول مرة في حياتي "31 عامًا آنذاك" ملاعق وشوكًا
وسكاكين من البلاستيك، حيث كان ممنوعًا دخول مثيلها المعدني إلى السجون!
أما الجغرافيا المشتركة
فهي الصلة بمدينة دسوق والقرى القريبة منها، حيث أسرة سلماوي من محلة مالك،
الواقعة شمال دسوق بخمسة كيلومترات.. وحيث ولدت وعشت في جناج الواقعة جنوبي دسوق
بحوالي عشرين كيلو.. ثم يأتي التشارك التاريخي والسياسي والفكري، إذ كلينا من مشرب
سياسي واحد هو الوطنية ذات العمق القومي العربي والسمة الاشتراكية، وكان لنا سعي
أو نضال مشترك قادنا إلى السجون تارة وإلى الرفت من العمل تارة أخرى، وإلى سخرية
الحكام وألاضيشهم منا تارة ثالثة! وعلى ذلك أفبعد كل تلك المقدمة يتاح لمثلي أن
يكون موضوعيًا غير منحاز وهو يناقش أو يقرأ مذكرات ذلك الشريك؟!
لن أكتب هذه المرة عن
الكتاب ذاته، وإنما سأتجه لما أظنه لا ينفصل عن مذكرات سلماوي، وإن كان لم يرد
فيها، وهو كيف لمن تختلف خلفياتهم الاجتماعية ومستواهم الاقتصادي وتختلف نشأتهم
وتكوينهم وثقافتهم أن يلتقوا على قناعة فكرية وسياسية واحدة؟ وهي حالة متكررة في
حياتنا المعاصرة، إذ على سبيل المثال التقى أبناء الميسورين الأغنياء حاملي الرتب
المدنية من باشوية وبكوية مع أبناء المستورين من الطبقة الوسطى، وكلاهما أي
المياسير والمساتير التقوا مع الكادحين الفقراء في الحركة الشيوعية المصرية، فقد
كان أمثال محمد سيد أحمد وسيف النصر وصبري عبد الله وخالد محيي الدين وطابور طويل
من المياسير أبناء البيوتات الكبيرة والمتوسطة أعضاء في تنظيمات تضم حرفيين من
صغار العمال ومن الكادحين الفلاحين والأجراء!
ثم كيف لمن لديهم تكوين
فكري وثقافي شبه مكتمل ومسلحون بوعي تاريخي وفهم منهجي يساعدهم على قراءة الظواهر
بجدية ويحميهم من الانخداع والزيف؛ أن يقبلوا بالاستمرار.. بل والدفاع.. عن مرحلة
أو تجربة سياسية اجتماعية اقتصادية ضُربت وقُصم ظهرها.. بل يتجاوزون الاستمرار في
الانتماء لها والدفاع عنها إلى دفع ثمن ذلك سجنًا وفقدًا لمصادر الرزق بل وحصارًا
لهم لمنعهم من أبسط حقوق الحياة؟!
ثم- أيضا- كيف يمكن
خارج منظومة الولاءات والمرجعيات الدينية والطائفية تلك التي تمنح وعودًا بالنعيم
ولذائذ الحور الحسان؛ أن نجد من لديه الاستعداد ولديه القدرة على الفعل بالانخلاع
من طبقته الميسورة، وبالتضحية- مهما كان الثمن في منظومة وضعية لا وعود فيها- بجنة
ولا تلويح ببحور العسل والخمر وقطعان الحور الحسان؟!
لقد ساد الركل
اجتماعيًا من أسفل لأعلى، أي من الفقر والعوز إلى الستر ثم إلى اليسر، وعرفنا- بل
نعرف كل لحظة- أولئك الذين استفاد أسلافهم من مشروع مكافحة الحفاء، وكان الحصير
يترك بصمات عيدانه اليابسة وحشراته اللاسعة على أجسادهم البائسة، ثم إذا بهم-
عبر سبل معلومة للكافة بضلالها وفسادها- يصبحون من أصحاب النعيم! أما أن يختار
المرء بكامل إرادته أن يستبدل بنعيم العيش نعيم الانتماء والتضحية لأجل الفقراء
والمحرومين، فتلك هي المفارقة التي لا تتكرر كثيرًا في المجتمع؟
تلك بعض أسئلة قبل أن
أحاول تقديم قراءة أتمنى أن تستوفي بعض الجدية المنهجية لمذكرات الأستاذ الكاتب
الكبير محمد سلماوي.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 20 ديسمبر 2017.
No comments:
Post a Comment