ما زالت العبارة ترد
على ذهني كلما جاء اليمن في جملة مفيدة، إذ كنت بصحبة الصديق المهندس عبد الحكيم
جمال عبد الناصر في زيارة لليمن، عام 1988 لتكريم اسم الزعيم ناصر، وتكريم رموز
مصرية ساهمت في مساندة ثورة اليمن: اسم الشهيد الوقاد، واسم الشهيد المسيري، وكان
موجودًا في الزيارة الفريق أول مرتجي والفريق القاضي.. وقد استقبل اليمنيون الوفد
بحفاوة بالغة.. وفيما كنا في سفر من صنعاء إلى تعز، وكان يقود السيارة رجل كهل
يحمل رتبة العميد متقاعد، وهو من الذين حاربوا مع الفريق حسن العمري، وانتصروا في
معركة حصار السبعين يومًا، وبعد أن زرنا القصر الذي كان يقيم فيه الإمام أحمد بتعز
حكى لنا الرجل طرفًا من سيرة حكم الإمامة واستبداد ودموية آل حميد الدين، وكيف كان
لدى الإمام جلاد يكلفه بضرب أعناق من يريد قتلهم، وجاء ذكر الشهيد أحمد الثلايا
قائد ثورة 1955 ضد حكم الإمام، ثم قبض عليه وأحضر للإمام أحمد حميد الدين في تعز،
وأمام القصر تم تنفيذ الإعدام بالسيف، حيث وجه الثلايا كلامه للجلاد قائلًا:
"اقتل يا كلب واحسن القتلة فغدًا تأكل الكلاب سيدك وتأكلك"، ويروي
محدثنا أن الثلايا نطق نصف الشهادة فيما رأسه ما زال متصلًا بجسده، وأكمل
"وأن محمدًا رسول الله"، نطقتها شفتاه ورأسه مفصولة!!
وسألت الرجل: كيف؟ فإذا
به يرد بأنه إذا كان الجلاد ماهرًا متمكنًا، والسيف حادًا باترًا فإن الإنسان لا
يشعر، وتظل وظائف جسده تعمل لدقائق!!
واستكمل قائلًا:
"إن التسييف أحن - أكثر حنانًا - من الترصيص"، أي أن القتل بالسيف أفضل
من القتل بالرصاص، شرط أن يكون الجلاد والسيف كما سبق ووصفت!.. وأضاف صاحبنا، أن
الأمير البدر بعد أن صار إمامًا واستبشر الناس به وبزوال حكم أبيه المستبد الدموي،
إذا به يقف من وراء تلك النافذة - وأشار لنافذة في القصر - وخطب في الناس مؤكدًا
أنه "إذا كان الوالد كان يأمر بقطع الرقاب فأنا سآمر بشطر الأجساد"!!
نحن إذن أمام مفاضلة
بين السيف وبين الرصاص، وكأن القتل والموت والدم أمر مفروغ منه، والنقاش حول كفاءة
الوسيلة!!
ولذا لم تتوقف مسيرة
الدم إلا زمنًا يسيرًا بعد زوال حكم الإمامة ونشوب ثورة 1962 واستقرارها، وكانت
المسيرة خطًا بيانيًا متصلًا له قمم تسيل فيها أنهار الدماء، وقيعان لا تخلو من
قطرات!، وفي الحقيقة فإن بقاء علي عبدالله صالح على قيد الحياة واستمرار دوره
المؤثر، وربما الحاسم طيلة السنين من 1978 تاريخ قفزه إلى كرسي الرئاسة إلى يوم
مصرعه في الرابع من ديسمبر 2017 ينبغي أن يكون هو محل التساؤل ومثار العجب، وليس
مقتله بتلك الطريقة، لأن كل النواميس في الطبيعة وفي الكتب المقدسة، وفي الأعراف
والثقافات الإنسانية تقضي أن حجم ما ولغ فيه صالح من الدماء كان كفيلًا بأن يدفع
الثمن بحياته أكثر من مرة!
إننا أمام طفل يتيم
فقير رباه زوج أمه، وعمل راعيًا ثم رعاه شقيقه، وينضم للجيش وعمره لم يصل الخامسة
عشرة، ويستمر في الصعود في سلاح المدرعات إلى أن يستولى المقدم إبراهيم الحمدي على
الحكم، ويشرع في بناء يمن حديث ومعاصر، ويحاول إحداث تنمية مؤسسية تحل محل البنية
القبلية المتخلفة، ومعه مئات من خيرة شباب اليمن المتخرجين في الجامعات، ولهم
اتجاه عروبي قومي واضح، ولكن صالح يتواطأ بشكل مباشر مع الغشمي في قتل الحمدي
وشقيقه، وبطريقة بشعة لا تخلو من نذالة منقطعة النظير، إذ تم استدراج الحمدي
وشقيقه القائد العسكري أيضًا إلى فيلا بضواحي صنعاء لحضور اجتماع قيادة الجناح
العسكري للتنظيم الوحدوي، الذي كان يضم أولئك الشباب، وهناك أحضروا عدة فتيات
أجنبيات، وتم ذبح الجميع ليصور الأمر وكأن الرئيس الحمدي وشقيقه متورطان في فضيحة
أخلاقية، ويتولى الغشمي بدعم من صالح الرئاسة، ليتم الانتقام من الغشمي بتدبير من
أصدقاء الحمدي وشركائه في مشروع الوحدة بين الشمال والجنوب، وذهب مبعوث رسمي من
الجنوب لتسليم رسالة من سالم ربيع علي الرئيس الجنوبي إلى الغشمي وبمجرد فتح
الحقيبة التي تحتوي الرسالة كان الانفجار ومصرع كل الحضور!
وجاء صالح ليس على برج
دبابة أو ماسورة مدفع وإنما سابحًا في بحر الدم الذي استمرت موجاته القانية تتابع
فيقتل صالح بيده ثلاثين شابًا هم قيادة التنظيم الوحدوي، وتقتل قواته مئات آخرين..
ولا أدري هل تم التأريخ لتلك المرحلة وتقييم ما حدث فيها أم لا؟، ولا أخفي أنني كنت
صديقًا وفي أرضية سياسية مشتركة مع عديدين من القيادات التي قتلها صالح!
وتتوالى موجات الدم
بغير حصر، سواء في الشمال أو الجنوب وما زالت أحداث الاقتتال الضاري البشع التي
جرت في جمهورية اليمن الديمقراطية "الجنوب"، وكانوا كلهم في حزب واحد،
واستبدل بالانتماء الأيديولوجي الماركسي الانتماء المناطقي، أحداثًا مماثلة في ذهن
كل من كان وبقي مهمومًا بالشأن العربي عامة واليمن خاصة، وهي موجات طالت رموزًا
يمنية فذة في دورها الوطني وفي ثقافاتها المترفعة عن القبلية والجهوية، وفي مسلكها
المعادي لكل استبداد وفساد، ولم تكن أصابع صالح بعيدة بحال من الأحوال عن تلك
الجرائم.
ولم تكن تلك الأصابع
محترفة فقط للضغط على الزناد، ولكنها احترفت أيضًا نشل ثروة الشعب اليمني، ومصادرة
مقدراته وقتل طموحاته في الاستقرار والوحدة والتنمية، وهو الشعب الذكي اللماح،
صاحب التراث العظيم حضاريًا وثقافيًا، وحتى في مجال العقائد والفقه والفلسفة، ومنه
ظهر أعلام عظام في تلك المجالات، ويكفي أن تراث القاضي عبدالجبار المعتزلي فيه
تأسيس للفلسفة الجدلية قبل هيجل وماركس، وحدث ولا حرج عن الشعر، كما أنه أعظم من
روض الجبال الشواهق فملأها بمدرجات الزراعة وبالسدود وبالمعمار الفني الفريد.
إن الأسئلة عن حاضر
اليمن ومستقبله أسئلة بلا حصر، لأننا لسنا بصدد جغرافيا طبيعية وبشرية وسياسية
لأرض بعيدة هناك في أطراف المعمورة، ولكننا أمام موقع شديد الأهمية، ليس فقط في
شبه الجزيرة العربية، ولا في المنظومة العربية والشرق الأوسط، وإنما على مستوى
العالم، والتفاصيل في ذلك بديهية يعرفها كل من لديه أدنى اهتمام بالمنطقة.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 7 ديسمبر 2017.
No comments:
Post a Comment