Thursday, 28 December 2017

حذارِ من انتقام الأرشيف




قد لا يجد من يُنهكهم العمل اليومي نهارًا وليلًا، ويأسرهم الانشغال بما تتيحه وسائط الاتصال المعاصرة كالفيس بوك وأقرانه، وقتًا للاطلاع على الكتب الصادرة حديثًا، ولا الأخرى التي تدخل في نطاق المصادر والمراجع ويغلب عليها الطابع الأكاديمي الرصين المختلف عما أسميته ذات يوم بـ"كتب الكلينكس"، وكنت أقصد بها الأوراق التي تضمها أغلفة، ومهما كان عدد الأوراق كثيرًا، إلا أنك فور أن تتصفحها وتقرأ مقدمتها وفهرسها وخاتمتها إلا وتلقي بها في أقرب سلة مهملات لتجد طريقها إلى الروبابيكيا في أحسن الأحوال.. ولذلك وبحكم الدراية بأبعاد هذا الواقع المضني فإنني أناشد زملائي الصحفيين والكتاب، خاصة من شاءت أقدارهم أن يتولوا مواقع إشرافية نسميها في مصر "مناصب عالية" - أناشدهم – قراءة ما يصدر من مذكرات لصحفيين ومفكرين، وأيضًا لساسة ومسؤولين سابقين، لأنه لا توجد حالة واحدة من تلك المذكرات تخلو من إشارة واضحة أو تفاصيل موسعة للصحافة وللمسؤولين عنها في الحقبة التي تتناولها المذكرات.. وقد يدعم هذه المناشدة ما هو قائم بالفعل على أرض الواقع أو في صفحات الكتاب الاجتماعي السياسي الذي تتخلق سطوره كل يوم في زماننا هذا من مشاهد تؤكد أنه لا دايم إلا الله.. وأنه يوم لك ويوم عليك، لأنها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. وأن السياسة والسلطة تشبهان القطط في أمرين، أنها تأكل وتنكر.. وأنها كثيرًا ما تأكل أبناءها مع فارق جوهري هو أن القطط تأكل بنيها حرصًا عليهم، وخوفًا من العدوان عليهم.. وأن السياسة والسلطة تأكلان بنيها، أي العاملين فيها والمشغولين بها تنكيلًا بهم!

في مذكرات الكاتب الصحفي المرموق الأستاذ محمد سلماوي، الصادرة عن دار الكرمة 2017 بعض إشارات سريعة لما احتوته صحف القاهرة عند أحداث يناير 1977 التي كان سلماوي أحد الذين اعتقلوا بسببها.. هي إشارات أسماها الأستاذ الدكتور جابر عصفور في كلمته التي ألقاها أثناء حفل توقيع المذكرات، "انتقام الأرشيف"، لأن كاتب المذكرات ذكر ما كتبه رؤساء تحرير وكتاب وما اتخذه رؤساء مجالس إدارة من قرارات ضد زملاء اعتبرتهم السلطة مناوئين لها ومهددين، لما ترى أنه الاستقرار والسلم الاجتماعي، ومتطاولين على رموز الحكم.. ومع مرور الوقت واتساع المسافة الزمنية بين زمن ما كتب وما اتخذ من قرارات وبين زمن كتابة المذكرات يكتشف القارئ العادي، والآخر المتخصص في فهم السياقات والمضامين أن الاتفاق مع النظام في أهداف وسياسات شيء، وأن منافقته وتسويغ أخطائه وكف البصر عن نقاط تقصيره شيء آخر، وعادة ما لا يتمكن من ارتكب خطيئة النفاق والانتهازية من تصحيح وضعه وتصويب خطئه، وقد لا يطاله عقاب سلطوي من أي نوع، ويبقى متمتعًا بما حققه من مكاسب مالية ومادية وأسرية عبر المصاهرات والمصالح، ولكنه يبقى كسيرًا حزينًا من مجرد الإحساس بنظرات الناس إليه ولإدراكه أنه لو تمكن أحد من أن يملك وقتًا ليفتح الملفات ويعود للأرشيف، وقرأ وحلل ما وجده من كتابات لتلك العينة البشرية، لكانت النتيجة فادحة بكل المعايير!!

تكون النتيجة فادحة لدى من بقيت لديهم بقية من خلايا الإحساس في أكبر أعضاء البدن الإنساني، وهو الجلد، أما من فقدوا الإحساس نهائيًا فلا أمل في أية حمرة للخجل، وتجدهم يعودون بوجوه نُزع منها الحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان كما ورد في الأثر!

أشار الأستاذ سلماوي إلى ما كتبه أحد رؤساء التحرير عام 1977، وما كتبه بعض الكتاب، وإلى ما اتخذه بعض رؤساء مجالس الإدارة عامي 1977 و1981 وحرص صاحب المذكرات على أن يضع صورًا لصفحات الصحف المنشور فيها ما كُتب كي لا يقال إنه افتئات على الحقيقة، وظلم لراحلين عن الحياة أو عن المناصب لا يستطيعون حراكًا.

إن دارس التاريخ وقارئه المدقق يكتشف أن ظاهرة الخلط بين الانطلاق من أرضية وطنية ذات أبعاد فكرية وثقافية، ومن ثم سياسية عريضة وعميقة لمساندة صاحب القرار والتصدي لأية محاولة لوضع العصي في عجلات السعي لحماية الوطن، والحفاظ على تماسكه وتوازنه وقوته ودوره وبين الانطلاق من مستنقع الانتهازية لأجل تحقيق مكاسب ذاتية محدودة ومتدنية.. حيث في الحالة الأولى أي الانطلاق من الأرضية الوطنية الواعية، يكون صاحب الموقف مستعدًا دومًا، لكي يبقى في آخر الصفوف، ومترفعًا دومًا عن التهالك على المناصب، بل لا طلبات عنده البتة، وأيضًا لا يتردد عن دفع الثمن وتحمل مسؤولية موقفه، أما في الحالة الثانية فسرعان ما يسعى الانتهازي إلى القفز من المركب عند أول خطر، حيث يسود لديه سلوك الفئران، ويهرول للحاق بالنظام الجديد، مقدمًا أقصى ما لديه من قدرة على الخدمة!

وتفيدنا قراءة التاريخ أن النظم كثيرًا ما تجد أنها بحاجة ماسة إلى خدم بأكثر مما هي بحاجة إلى شركاء وأنداد، بل ومتعاونين على قاعدة "إنني أعمل معك.. ولست أعمل عندك"، ولكن احتياج النظم شيء، واحترام التاريخ شيء آخر.. والويل كل الويل لمن يطاله "انتقام الأرشيف"!
                           

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 28 ديسمبر 2017.

No comments:

Post a Comment