حكاية قديمة تقول إن
الغباء أخطر أثرًا من الجنون.. وفيها أن أحدهم كان يقود سيارته بالقرب من مستشفى
للطب النفسي، الذي كانوا يسمونه قبل ظهور أحمد عكاشة مستشفى "المجانين"،
وتعطلت السيارة ليكتشف صاحبنا أن أحد إطاراتها قد ثقب وخرج من مكانه تقريبًا أي
بغير مسامير، وجلس كسيرًا حزينًا لا يدري ماذا يفعل، وإذا بمريض يطل من نافذة
المستشفى يقول له: بسيطة خذ من كل إطار "عجلة" مسمارًا لتصبح كل
الإطارات بثلاثة مسامير حتى تصل لمكان تستطيع فيه تدبير المسامير الناقصة.. وفعلًا
قام صاحبنا بتنفيذ الاقتراح، والتفت إلى النزيل شاكرًا ومتسائلًا: ألف شكر.. بس يا
خسارة ليه أنت مجنون؟! ورد النزيل: مجنون أي نعم لكني لست غبيًا!، انتهت الحكاية.
وأكاد بدوري أن أترافع
لدفع تهمة الغباء عن نفسي وعمن لا حصر لهم من الذين يشاهدون بعض ما يجري من حولنا
ولا يبتلعونه ولا يقبلون تفسيرات قد تأتي لشرحه.. وأمام الإصرار على الفهم وعلى
حتمية تقديم تفسيرات منطقية مقبولة يصبح الانضواء في خانة المجانين، أفضل مليون
مرة من البقاء في خانة الأغبياء!
وعلى سبيل المثال فإنني
أكاد أقف على رأسي فيما قدماي لأعلى وأنا أقرأ لمرتين متتاليتين خبرًا يقول إنه تم
القبض على من اختلسوا، أي سرقوا أكثر من تسعمائة مليون دولار من شركة بترول..
وأكرر تسعمائة.. أي تسعة وعلى يمينها صفرين بالأخضر الرنان، يعني بالمصري وبحساب
سبعة عشر جنيهًا ونصف للدولار، نجد أنفسنا أمام حوالي ستة عشر مليار جنيه، مع أنني
حذفت كسر الدولارات لأنها كانت تسعمائة وشوية ملايين!
السؤال كيف ومتى وأين
لهفوا هذه المليارات، ولماذا لم يعلن عن اسم الشركة ولا اسم مسؤوليها، وهل تمت أو
ستتم محاسبة هؤلاء المسؤولين، وهل هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، وهل كان
ذلك دفعة واحدة أم على مراحل.. وهل تم اتخاذ التدابير اللازمة لفحص بقية شركات
البترول فلربما يكون فيها – لا قدر الله – شوية ملايين أخضر تم نسيانها لأنها
فكة؟!
أظن أن الأغبياء وحدهم
هم من يمرون على هذه الواقعة مرور عين راكب قطار سريع على أعمدة التلغراف! أما
المجانين.. فلا يمكن بحال إلا أن يشدوا فرامل القطار كي تتمكن العين من الرؤية
المتروية السليمة!
وفي سياق آخر قد يقف
الأغبياء حائرين – مثل حيرة صاحب السيارة المعطلة – أمام ظاهرة تتمثل في التصريحات
الحاسمة الصارمة القاطعة البتارة، والتي لا ينضح من إحكامها الماء تلك التي يفقعها
أصحابها في مؤتمرات صحفية أو على شاشات الفضائيات إياها أو على صفحات شبكة
الإنترنت، ومنها ما فقعه مرشح رئاسي سابق وبصوت جهوري خشن فيما يصطف من حوله ومن
ورائه وجوه أصبحت كلها تشبه بعضها، وقد قال صاحبنا بحسم: "مافيش كذا.. ومافيش
كذا.. ومافيش كذا.. يبقى مافيش انتخابات"!.. وقد كنت أنظر إلى الوجوه من حوله
ومن ورائه وبالصدفة أعرف معظمهم عن قرب، وبعضهم عن قرب شديد فأجدها متخشبة ذاهلة
بملامح متحفزة.. وتسألني حضرتك كيف هي متحفزة فيما هي ذاهلة.. فأجيبك بسبحان
الله.. له في خلقه شؤون!
وتسمع وتقرأ عن أحد
فقعة التصريحات من العينة نفسها وهو طبيب أسنان، أذكر أن من عرفني به كان الراحل
العزيز الزميل خالد السرجاني، حيث كنت أشكو علة في أسناني وذهبنا وحدث ما كانت
نتيجته حوار واسع في السياسة وألم مستمر في الأسنان.. ثم ازدادت المعرفة عبر رؤيته
في المطعم الذي هو مقهى وحانة ومكان للقاء المثقفين والموهوبين، ومن ثم مكان
لهاموش متخصص في التجمع من حول هؤلاء أملًا في أن يصبح "من عاشر القوم أربعين
يوم صار منهم".. وقد حدث بالفعل إذ أصبح صاحبنا فجأة منهم.. بل في مقدمتهم
وظهرت عليه أعراض الإبداع الروائي، والكتابة الصحفية ثم أعراض الزعامة السياسية،
ومؤخرًا فقع تصريحًا حاسمًا صارمًا باتًا بتارًا: "على جثتي أن ينال السيسي
رئاسة ثانية"، ولو أن غبيًا هو من يتأمل هذا التصريح لاعتبره "طق
حنك" عابرًا، أما المجنون فلابد أن يتريث لأن صاحبنا يملك جثة عظيمة بمقاييس
الأبدان البشرية.. فهو هائل الحجم عريض المنكبين مفتول العظم واللحم.. بما يعني أن
جثته تتحمل مرور المواكب الشعبية والرسمية التي دومًا ما تصاحب وصول أي رئيس لسدة
الرئاسة!.. ولأن صاحبنا والذي قبله الذي قال "يبقى مافيش انتخابات"،
ومعهم شلة المساندة "السنيدة" مستعدون لفعل أي شيء مقابل الصورة.. صورة
في جريدة.. صورة في مجلة.. صورة في فضائية.. ومستعدون للتخديم على أجندة كل الدول
والمنظمات والجهات التي استهدفت وتستهدف كسر وتدمير المحروسة، وتراهم صمًا وبكمًا
وعميانًا إزاء حقائق استهداف مصر، لأن أملهم هو أن يتفكك الوضع القائم، ويكون
أمامهم فرصة ولو واحد في التريليون للمشاركة في فيرمونت أخرى وللوجود مع الإخوان
في معادلة حكم واحدة، حتى وإن كان نصيبهم الفتات!
تلك هي رؤية المجانين..
والحمد لله أن عافانا من الغباء!
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 22 مارس 2018.
No comments:
Post a Comment