Wednesday, 3 July 2019

التحية الموصولة لصلاح عيسى





تتفق أو تختلف مع صلاح عيسى إلا أن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن صلاح بقي في حياته وبعد رحيله، تكوينًا إنسانيًا متفردًا، وإذا أردت أن تحصي جوانب تفرده فستجد نفسك إزاء قائمة طويلة عريضة من السمات والأفكار والمواقف، يلزمها كتاب مستقل، يملك كاتبه القدرة العلمية على دراسة السير الذاتية، وعلى تحليل المضمون وعلى فهم التأثيرات المتبادلة بين الأفكار والأوضاع السياسية والاجتماعية، وبين الأفراد التاريخيين، الذين استطاعوا ترك بصماتهم في المجالات التي تفاعلوا معها فصاروا من نجومها.

التقيت به في نقابة الصحفيين، وفي الندوات والمحاضرات والمؤتمرات والمظاهرات وفي السجن، ولم تكن "كيمياؤنا" إيجابية في معظم الأحيان لأسباب عديدة بعضها ذاتي، والآخر بالطبع موضوعي، وفي الذاتي لم يجد الاستلطاف المتبادل طريقه بيننا، ربما لأن كلينا بقي عند نفسه وعند "جماعته" ديكًا قد يصيح في كل وقت غير مبالٍ بمن أزعج أو أيقظ، وبقي مخلصًا لتوجهه الفكري والسياسي، لا يطيق مساسًا به من أحد، أما في الموضوعي فربما كان الاختلاف حول التقييم التاريخي لثورة يوليو وجمال عبد الناصر منهجًا وتطبيقًا وغايات هو مربط الفرس.. ولطالما تصادمنا أو كدنا في مرات عديدة.

ومع السنين وتعاظم المشترك بيننا من هموم وآمال اقتربنا، وصرت أتذوق خفة ظل صلاح، وقدرته الفائقة على تحويل أشد المواقف صعوبة إلى حالة ساخرة مضحكة.. كما صرت أطبق عمليًا الذي صحنا به في حياتنا السياسية دون أن نطبقه كثيرًا "إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية".. طبقته عمليًا وظهرنا في بعض البرامج التليفزيونية، لنجعل بعض من شاهدونا يخبطون كفًا بكف اندهاشًا من أن يتفق صلاح والجمال على رأي واحد!

ومنذ أسابيع وأثناء انعقاد المؤتمر العام لحزب "التجمع"، ذهبت ضيفًا مهنئًا، وتلقيت هدية ثمينة من الصديقة الزميلة أمينة النقاش زوجة صلاح، والركن الرابع في التكوين الإنساني، الذي ضم حسين وفريدة وصلاح وأمينة، الأربعة الذين شغلوا الخريطة السياسية اليسارية، وتفاوتت فيهم الآراء والمواقف لمدى طويل، وكانت الهدية هي كتابين لصلاح، أحدهما بعنوان "سلامي عليك يا زمان.. مشاغبات وهموم صحفي عربي في الثمانينيات"، والثاني بتقديمه وتحقيقه هو "مذكرات فتوة"، تأليف المعلم يوسف أبو حجاج.. ورغم أن الكتاب الأول عبارة عن إعادة نشر لمجموعة مقالات كتبها صلاح عيسى، كان أولها بعنوان "الأيديولوجية الكاريوكية"، ونشر في 13 يوليو 1987، وآخرها في الكتاب بعنوان "اختلافهم رحمة"، ونشر في 10 يوليو 1989، إلا أن كل مقال فيه من المضامين وفيه من السبك المعلوماتي واللغوي ما يجعله دراسة قائمة بذاتها، إذ لم يكن الرجل من فئة محترفي السلق في الكتابة، ولا من فئة إخفاء عفن الكلمات بمزيد من البهارات، بل بقي طوال الوقت جادًا ملتزمًا بأصول منهجية لم يحد عنها أبدًا، ويشعر قارئه أنه كاتب يتعب على ما يكتب، كما يقول إخواننا المشارقة! وللعلم فإن الجدية والصرامة المعلوماتية والعمق المعرفي التي تنضح كلها من سطوره، لم تستطع أن تخفي لحظة واحدة قدرته الفذة على السخرية والتندر والنقد اللاذع، الذي قد يستخدم فيه ألفاظًا ومصطلحات من فصيلة "السبرنطيقا"، وأسماء من مقام آدم سميث وريكاردو.. ومالتس وهابسون، ولعل مقاله عن شركات توظيف الأموال، وعن أسماء لم يذكرها صراحة "الريان – والسعد"، الذي كان عنوانه "من الذي يستحق جائزة نوبل"، ونشره في 7 نوفمبر 1988، نموذج رائع للكتابة الساخرة المريرة المضحكة في آنٍ.

أما كتاب "مذكرات فتوة"، فقد قدمه قبل صلاح وعبر عقود طويلة مضت ثلاثة من أهل القلم المرموقين، أولهم خير الدين الزركلي، وثانيهم حسين شفيق المصري، وثالثهم حسني يوسف، ويحكي صلاح في مقدمته، التي هي دراسة علمية دقيقة عن الفترة التي كتب فيها الكتاب، قصة عثوره على تلك المذكرات، ويقدم تحقيقًا مدققًا عن المطبوعة، ابتداء من قطع ورقها "15.5 سمX 21 سم"، وليس انتهاء بما تضمنته، أما الأهم عندي واللافت للنظر بقوة فهو الهوامش، التي أعتقد أنها أضنت صلاح عيسى، وأخذت منه مجهودًا جبارًا ليشرح عقب كل فصل معاني الكلمات والمصطلحات، ويدقق التواريخ، ويوضح الملابسات وغير ذلك، الأمر الذي ذكرني بواحد من أعظم المحققين، هو الراحل الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية، أستاذ العصور الوسطى بجامعة الإسكندرية في الأربعينيات وأحد كبار العلماء الذين أسهموا في جامعة يوتا الأمريكية، ومؤلف الموسوعة القبطية باللغة الإنجليزية، والذي تعاون مع الأمير عمر طوسون في إحياء الكتب التراثية، ومنها كتاب "قوانين الدواوين" للأسعد بن مماتي وزير صلاح الدين الأيوبي.. لقد أعاد صلاح عيسى المجد، الذي أسسه ورعاه آباء من العلماء المرموقين.

المساحة لا تحتمل الاستطراد، وأتمنى أن تجد عين القارئ سبيلًا لمطالعة الكتابين.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 يوليو 2019.

No comments:

Post a Comment