لا أعرف هل هو حسن حظي أم سوؤه أن
تشاء الأقدار أن ألتقي معظم قيادات الحركة السياسية المصرية، من التيارات القومية
واليسارية والليبرالية والإسلامية والمسيحية، وقيادات الأحزاب والحركات في لبنان
وسوريا واليمن والعراق والسودان، وكذلك أن ألتقي معظم قيادات المقاومة الفلسطينية
من فتح والشعبية والديمقراطية وجبهة تحرير فلسطين، ومن قبلها فلسطين العربية،
وأيضًا حماس والجهاد، ناهيك عن شخصيات عامة من المفكرين والمثقفين من كل تلك
الجهات، وكان ذلك خلال الفترة الممتدة من مطلع السبعينيات من القرن العشرين إلى
منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي حوالي أربعين عامًا، حيث فضلت
بعدها الانسحاب تدريجيًا من النشاط السياسي العام، والانصراف إلى القراءة والكتابة
الدورية في الصحافة، والحديث في التليفزيون والإذاعة أحيانًا.
وسر عدم معرفتي مرتبط بأن مسوغات حُسن
الحظ عديدة، وكذلك أيضًا مسوغات سوئه، وكلها أمور نسبية تخضع لرؤيتي الذاتية من
حيث مدى تكويني المعرفي وقدرتي على الفهم، وعلى التعامل مع الظواهر والزاوية التي
أنظر منها، إذ من المؤكد أن ثمة زوايا أخرى لم أصل إليها، عدا عن أن البعض قد
يكونون محقين عندما يرون أنه حتى السلبيات التي تصادف المرء عند تعامله مع البشر
تعد حظًا حسنًا، لأنها كشفت له ما قد يكون انخدع فيه أو أساء التقدير!
تلك المقدمة كانت ضرورية لكي أكتب
ثلاثة مشاهد رأيتها، كان أولها منقولًا من قطر، وثانيها من تركيا، وثالثها من
تونس، وكان الموضوع واحدًا ألا وهو صلاة جنازة وتأبين وقراءة فاتحة للراحل محمد
مرسي.. وقد شدني مشهد خالد مشعل قائد حماس ورئيس مكتبها السياسي السابق، وهو ممتط
صهوة المسرح من خلف ميكروفون، ومن خلفه وقف طابور يتلقى العزاء من طابور آخر يقدم
العزاء!
جسد مفرود يتدلى منه كرش متوسط وحنجرة
رنانة مع لسان طلق ويد تترجم بأصابعها بعض معاني الكلمات إلى حركات، ثم رشقات أو
زخات متصلة من المبالغات والبلاغات والمغالطات، تؤكد أن ما استقر في يقيني عبر تلك
الأربعين سنة، التي عشت فيها مع كل ذلك الكوكتيل السياسي صحيح، ألا وهو أن قيادات
المنظمات ذات الانتماء الأيديولوجي الديني مثل حماس وحزب التحرير وغيرها، هم أكثر
السياسيين قدرة وجرأة على النصب والتزييف والمتاجرة بأمرين مقدسين أولهما، النص
الديني والتوجه الإسلامي، وثانيهما النضال ضد الوجود الصهيوني الاستعماري
الاستيطاني في فلسطين والأراضي المحتلة!، ذلك أن تلك السمات قد تلحق بيساري أو
ليبرالي أو قومي، وعندها تحسب بالسالب من انتمائه الوضعي الإنساني، أما الذين
يطلقون اللحى ويحفون الشوارب ويبرزون الزبيبة ويتدفقون بالآيات الكريمة والأحاديث
الشريفة، فإنهم عندما ينصبون ويكذبون ويزيفون، فهي كارثة مزدوجة وفاجعة لا علاج
لها!
تحدث مشعل أو بالأصح "فشر"،
فزعم أن الأسد محمد مرسي– رحمة الله عليه– بمكالمة تليفونية واحدة ردع وأرعب
أوباما والأوروبيين وسائر عموم المسؤولين في أمريكا وأوروبا وإسرائيل لوقف اعتداء
إسرائيلي على غزة، وأبلغهم بأنهم إذا لم يرتدعوا ويوقفوا ما يجري فإن له كلامًا
آخر.. أو هكذا قال!.. واستمر مشعل الذي يمكن أن نسميه "مفشر"، نسبة
للفشر الذي هو الكذب الصراح المفضوح، ليؤكد ما مضمونه أن فلسطين كادت أن تتحرر من
نهرها إلى بحرها، وأن العصر الذهبي للإسلام قد تأكد في ظل رئاسة الأسد وإخوانه وجماعته
وعشيرته!
أما ما جرى في تركيا بقيادة
"البجم" أردوغان وما يصدر عادة من كلام يؤكد أن حجم وعمق وكثافة كراهية
البجم لمصر وقائدها، فهو أمر متوقع، ولكن الغريب هو وجود الأنطاع الذين لا يلفت
نظرهم حجم وعمق التناقض بين المضامين الدينية الإسلامية وبين الواقع التركي، سواء
في الحياة اليومية أو في العلاقات الخارجية، خاصة مع الدولة الصهيونية والحلف
الأطلسي، أو في التآمر الذي لم يتوقف ضد مصر وضد كل ما هو وطني وقومي!
ثم كان المشهد الثالث في برلمان تونس،
حيث تقدم أحد الأنطاع بطلب لتأبين المرحوم وقراءة الفاتحة، باعتباره أول رئيس مدني
منتخب في تاريخ مصر!!، وقامت نائبة تونسية رضعت من صدر أمها الشجاعة والوعي ووضوح
الرؤية، وردت بأن ذلك ليس من شأن البرلمان التونسي، وثار الصخب إلى أن حُسم الأمر
بقراءة الفاتحة، باعتبار المرحوم نفسًا إنسانية يجوز الترحم عليها!
إن كل ما سبق يعني بالنسبة لي أن مصر
لاتزال مستهدفة وبضراوة ممتلئة غيظًا ومرارة وحقدًا، وأن الجهد الواجب أن نبذله
كمصريين لا بد أن يكون بالمستوى نفسه، ليصبح القاسم المشترك الأعظم بيننا باختلاف
مشاربنا الفكرية وانتماءاتنا السياسية، هو العمل على أن تبقى مصر متوازنة متماسكة
لتستمر قوتها، وأن يكون العمل والعلم والعطاء هو وسيلتنا التي لا بديل لها، وإلا
فإن جهاز مناعتنا الوطني، الذي استعدنا له قوته في الثلاثين من يونيو يمكن أن
يُصاب بالنقص والانهيار لا قدر الله.
إن حجم وعمق وكثافة العداء ضد مصر
وقيادتها من قطر وتركيا وحماس والإخوان في تونس، وفي كل مكان على سطح الأرض، يتعين
دراسته دراسة تفصيلية، وأعتقد أن مراكز الدراسات، خاصة مركز الدراسات في الأهرام،
لديها الكفاءات والخبرات التي تؤهلها للمهمة لنتبصر بالعدو مثلما تبصرنا بالعدو
الصهيوني بعد 1967.
نشرت في
جريدة الأهرام بتاريخ 27 يونيو 2019.
No comments:
Post a Comment