Showing posts with label مصر، الإخوان المسلمون، الإسلام السياسي، الأهرام. Show all posts
Showing posts with label مصر، الإخوان المسلمون، الإسلام السياسي، الأهرام. Show all posts

Thursday, 19 December 2013

لا للاستئصال والاستبعاد

 
لوحة الكاتب للودفيج دويتش

ثبت أنه لا يمكن استئصال الأفكار والعقائد أيا كان مصدرها وأيا كان رأي الآخرين فيها‏، حتي وإن كانوا الأغلبية وحتي وإن كان هذا الرأي مستمدا من تعاليم السماء، والدليل علي ذلك قائم وباق منذ عرفت البشرية أمرا اسمه الفكر ومضمونا اسمه العقائد، ولذلك فإن من يظن أنه بالإمكان استئصال أفكار ما يسمي بـالتأسلم السياسي أو محو احتمالات الانتماء إليه مخطئ.

من هذا التأسيس يطرح السؤال نفسه، وهو ما ذكرته في نهاية مقالي الأسبوع قبل الفائت: كيف نواجه خطر الإخوان والسلفيين ومن لف لفهم وسعي مسعاهم؟

قلت في المقال السابق إن الحكومة وحدها لا يمكن أن تتكفل بمهمة مواجهة هذا الخطر وأن المجتمع ككل مطالب أن يشارك، وفي ظني أن الهدف المأمول هو إعادة تأهيل أصحاب ذلك الفكر وتلك العقائد ليدركوا أنه لا إكراه في الدين وأنه لا قوامة لهم علي بقية خلق الله في الدين والدنيا. وأنه لا وجود لتفويض من السماء لأي طرف بأنه هو الذي يمثلها وغيره خارج من رحمة الله..

وبالطبع فإن إعادة التأهيل في هذا المقام لا تتم كما هو الحال عند تأهيل المدمنين والمجرمين بإيداعهم مؤسسات إصلاحية قد يحبسون فيها لفترة ليعودوا بشرا غير جانحين للإدمان ولا للجريمة، ولكن التأهيل في الحالة التي نتحدث تتم عبر مشروع وطني شامل يتجه إلي تجفيف منابع هذا الفكر الجانح وتجفيف منابع التمويل المالي التي تستهدف استمرار توظيفه في العنف والتدمير، ثم فتح المجال أمام المستجيبين فيه للحوار والتعايش ليجدوا سبيلهم السوي للعمل والإبداع والقيادة. وفي الوقت نفسه وبالتوازي مع سياق التأهيل تتم تقوية خلايا المناعة الفكرية والثقافية والاجتماعية لدي الأجيال الطالعة في المدارس والجامعات وتوظيف الإعلام والنوادي في هذا المضمار لأمل أن نصل لمرحلة يعود فيها الفهم الصحيح لدور العقائد الدينية في حياة البشر، وتتعمق المصالحة أو العلاقة السوية بين المحور الرأسي، الذي هو علاقة الإنسان بالسماء، وبين المحور الأفقي الذي هو علاقة الإنسان بالمجتمع والطبيعة، وعند تقاطعهما يعرف المرء حق ربه عليه بأن يراعيه في خلقه وحق المجتمع والطبيعة عليه بأن يرضي الله فيهم، لأن الله سبحانه وتعالي كرم النفس الإنسانية بحد ذاتها وبغير تصنيف لها من حيث لونها أو لغتها أو دينها.. وفي هذا المقام أعترف أنني توقفت طويلا أمام الآية الكريمة من سورة الحج: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصاري والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله علي كل شيء شهيد الحج(17).. توقفت طويلا ورغم أنني أتمم قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان، فإن الآية الكريمة بدت أمامي منذ فترة قريبة وكأنني أقرؤها للمرة الأولي، إذ لم يصل لي من قبل هذا المضمون الهائل العظيم للتسامح والتعايش ليس فقط مع الآخر من أتباع الدين السماوي، ولكن أيضا من المجوس والمشركين ومن قبلهم الصابئة الذين يختلف علي ما إذا كان دينهم سماويا أو غير ذلك.. وأقصد هنا بالسماوي الأديان الإبراهيمية!

ويسائل المرء نفسه: لماذا لم تقرر علينا هذه الآية وما يشبهها من آيات كريمة تحض علي التسامح والتعايش مع الجميع وبين الجميع وتنص علي أن الله سبحانه وتعالي هو وحده الذي يفصل بيننا يوم القيامة في مدارسنا في أثناء الابتدائي والإعدادي والثانوي بل وفي الجامعة!

ثم يحضرني في هذا السياق أيضا نص موعظة الجبل التي قالها السيد المسيح وجاء نصها كاملا في الإنجيل وفيها ذروة من ذري التسامح والتعايش والأخلاق السامية الرفيعة.

إن تجفيف منابع الفهم الخاطئ للعقائد السماوية لن يكون بإحراق المراجع التي تؤصل لذلك الفهم ولا بتمزيقها أو منع تداولها، ولكن بمناقشتها وتفنيد ما بها من مغالطات أو اجتهادات كانت تخص أصحابها في أماكن وأزمان غير مجتمعنا وغير زماننا، ثم بنشر وانتشار المراجع التي تؤصل للمفاهيم الإنسانية السامية.. وإذا مددنا الخيط فإن الأمر نفسه يمكن أن ينتقل من مؤسسات التعليم إلي أماكن أخري كالنوادي والساحات الشعبية والندوات العامة في المكتبات ومؤسسات المجتمع المدني.. وليصبح العنوان العريض هو نداء تعالوا نتسامح ونتعايش ولقد يذهب ذهن المرء المراقب إلي قضية تتصل بما نتحدث عنه، وهي مدي احتمال أن يكون السعي الحثيث الذي استمر عقودا طويلة من الزمن، أي منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، لتأسيس جماعات مثل الإخوان المسلمين كان هدفه تدمير الإسلام بذاته كعقيدة من داخله والحيلولة دون أن يكون فاعلا بحال من الأحوال في أي مشاريع للنهضة في المجتمع التي تدين كلها أو غالبيتها به، ومن ثم فإن مواجهة جماعات وأحزاب وتنظيمات ذلك التأسلم السياسي بالفكر والثقافة والعلم والجهد الاجتماعي المنظم الواعي بحتمية وحدة نسيج الأمة وحتمية عدم الإقصاء لأي مواطن مصري، أيا كان معتقده، هي مواجهة لحماية الإسلام نفسه وضمان صدق صلاحيته للإنسانية في كل مكان وزمان، لأن فيه جماع التعاليم الإنسانية الرفيعة السامية التي لا يختلف عليها.

ولقد شاءت الأقدار أن يكون الإخوان المسلمون هم الذين أمسكوا زمام السلطة عقب ثورة يناير بصرف النظر عن التفاصيل المرعبة التي تتكشف يوما بعد يوم عن الدور الخارجي في العملية، ويبدو أن القدر شاء في الوقت نفسه أن ينقذ الإسلام بانكشاف مدي ما في ظاهرة التأسلم السياسي من خروج علي الفهم السليم لدور العقائد الدينية في حياة المجتمعات، وكان ما كان من مسلكياتهم المعيبة التي أودت بتجربتهم وفي الوقت نفسه أيقظت الأذهان ونبهت الوجدان الشعبي إلي مدي عمق الهاوية التي تردي الوطن فيها، وأن الخلاص منهم هو بداية التصحيح ونقطة الانطلاق في مواجهة مخطط الفوضي الخلاقة وإعادة تشكيل المجتمعات العريقة المتماسكة لإعلاء مصلحة الدولة العبرية في المقام الأول.
                            
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 ديسمبر 2013

Thursday, 5 December 2013

كسر الدائرة الجهنمية

 
معبد حتشبسوت في الأقصر

وماذا بعد؟‏!‏ ماذا بعد أن كشفنا الجذور الفكرية والفقهية لهذا التيار الذي يرفع المصاحف علي رماح الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يجري في مصر والمنطقة بل أيضا، بدرجة أو أخري، عالمنا المعاصر؟!

وماذا بعد أن تحركت الكتل الجماهيرية بالملايين لتصحيح المسار التاريخي لحركة التغيير في مصر، بعدما استطاع الإخوان وهم العمود الفقري لذلك التيار أن يقفزوا إلي الحكم وكان من حظ الوطن أن يقعوا في أخطاء وخطايا جسيمة كانت أحد أسباب ذلك التحرك الجماهيري الهائل؟ وماذا بعد أن كشف الناس في معظمهم زيف الادعاء الإخواني والسلفي بتمثيل الدين الصحيح، وبأن شعار الإسلام هو الحل يحوي حلا لكل المشكلات الكبيرة والصغيرة وبأسرع من لمح البصر؟ ثم ماذا بعد أن وجدت مصر ظهيرا عربيا قويا من أشقاء مخلصين هالهم المصير المؤلم الذي تنحدر إليه المحروسة، وهم يدركون أنها إذا سقطت في الهاوية فلن يبقي أحد منهم ثابتا في مكانه، بل إن المؤشرات أضحت حقائق مخيفة بعد انكشاف خلايا الإخوان المبثوثة في الإمارات والسعودية وغيرهما؟

وكذلك ماذا بعد أن حدث تحول في الموقفين الأمريكي والأوروبي وبدت علامات تفهم لما جري في مصر باعتباره ثورة شعبية حقيقية علي حكم الإخوان وتحالفهم، وأن الجيش المصري وقيادته استجابا لرغبة الشعب وإرادته، ولم يكن الأمر انقلابا عسكريا بحال من الأحوال! وأخيرا ماذا بعد أن اقتربت الفترة الانتقالية من الانتهاء، وبعد أن أصبح المجال مفتوحا أمام القوي السياسية من خارج تيار التأسلم السياسي لتمارس عملها دون معوقات جوهرية؟! أسئلة عديدة يجب أن نفكر فيها وأن يكون همنا الأول هو الإنجاز علي المستويات الوطنية كافة، وأول مستوي في نظري يتمثل في كيفية الحيلولة دون أن يغرق الوطن في مستنقع التطرف الديني الذي يمنع أي تقدم علي أي مستوي، وهو أمر عرفته أمم قبلنا عبر حقب طويلة من تاريخها. إن الحكومة والجيش المصري والشرطة في مصر لن يستطيعوا وحدهم مواجهة الظاهرة التي واجهنا مراحل متعاقبة منها في أثناء حياتنا كأفراد.. لأن منا من عاش واعيا المرحلة منذ الأربعينيات إلي الآن، ومنا من عاشها واعيا ـ وأنا منهم ـ منذ مطلع الخمسينيات إلي الآن!

عشنا تأجج الظاهرة وانتشارها وجحافلها وهتافات حناجرها القرآن دستورنا.. والرسول زعيمنا.. والموت في سبيل الله أسمي أمانينا.. ثم عشنا انحسارها واضمحلال جماهيريتها وانصراف الناس عنها وتحولها إلي سبة يحاول من تلتصق به أن يتنصل منها.. ثم كان قدرنا أن نعيش ميلادها الجديد ومصالحة الحاكم معها وعودتها إلي الضوء.. ومرحلة بعد مرحلة بدت وكأنها ملء السمع والبصر وتسد جماهيرها عين الشمس.. وبالتوازي لم تفلت أعيننا أولئك الذين كانوا يطلقون لحاهم ويحلقون شواربهم، وبعضهم كان يتعمم عمامة بيضاء تتدلي منها عزبة طويلة علي قفاه وظهره، ولهم مساجدهم الخاصة ويسميهم العامة السنية، وسمعناهم يطعنون في إيمان وإسلام الآخرين وخاصة من يذهبون للموالد ويتبركون بالأضرحة ويتأولون في النص القرآني ويعتقدون في شفاعة النبي المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم.

وعشنا كذلك انبعاث ما سمي الجماعات الإسلامية، وعاصرنا يوما بيوم نموها في الجامعات ومؤتمراتها ولقاءاتها التي كان أولها اللقاء الإسلامي الأول بجامعة عين شمس، تحت رعاية أحمد كمال أبو المجد ردا علي لقاء ناصر الفكري الذي انعقد قبل ذلك بعام ـ1971 ـ إحياء لذكري جمال عبد الناصر، وكان كاتب هذه السطور أحد الذين فكروا فيه وأقاموه واستمروا في عقده حتي ما بعد منتصف السبعينيات، وعانينا ما عانته أمتنا عندما اتجهت تلك الجماعات إلي العنف الدموي الذي كانت خميرته الأولي قد تكونت في أثناء المواجهات في الجامعة بين الطلاب الناصريين والماركسيين، وبين الطلاب المنتمين لتلك الجماعات وتولت جهات في الدولة ومسئولون بأعينهم تمويل وتسليح تلك الجماعات الإسلامية، لتبدأ باستخدام الجنازير والمطاوي وتنتهي باستخدام الرصاص موجها إلي صدر الرجل الأول في مصر رئيس الجمهورية أنور السادات الذي كان هو من حضر العفريت ولم يعرف كيف يتم صرفه! وكان ما كان في أكتوبر1981 وما أعقبه حتي خفتت ظاهرة التأسلم العنيف، ولكن كانت ظاهرة التأسلم الإخواني آخذة في النمو حتي أضحت شريكة في الحكم بما يقارب تسعين مقعدا في البرلمان.. وبقية المشاهد معروفة حتي25 يناير و30 يونيو! كيف إذن نعمل علي كسر هذه الدورة الجهنمية الخطيرة أو نقطع هذا الخط المتعرج الزجزاجي بين قمم صاعدة وقيعان هابطة، وكلاهما الدائرة والخط تعبير عن صعود وهبوط أو تبلور وتفسخ ظاهرة التأسلم السياسي المتطرف، الذي ثبت أنه يهلك الزرع والضرع والنسل! كيف نعمل علي أن نحتفظ للوطن بتاريخه وتراثه وعقائده ووجدانه وضميره، وكلها أمور تؤكد وجود الدين كأحد مكوناتها الرئيسية بغير أن يظهر تجار الدين الذين يقفزون عند أي منعطف ليقولوا إنه ملكهم وإنهم أصحابه وإنهم مفوضو العناية الإلهية للقوامة علي معتقدات الأمة، ولدرجة أن يذهب مرشدهم إلي أن الهجوم علي اعتصامهم أكبر بسبعين مرة عند الله من هدم الكعبة حجرا حجرا؟! كيف نتواصل مع أهلنا في عمق الدلتا وأعالي الصعيد وأطراف الوادي شرقا وغربا، لنتحصن بهم وليحصنونا ضد هؤلاء التجار الذين يكشفون في لحظة واحدة أنهم قتلة محترفون لا يطرف لهم جفن ولا تنفك قسمة واحدة من قسمات وجوههم المتجهمة العابسة المتوعدة!

كيف.. وكيف.. أسئلة بغير حصر لابد من مواجهتها ليس من جانب الحكومة والجيش والشرطة فقط، وإنما بالدرجة الأولي من جانب كل من لديه القدرة علي الفعل الواعي بخطورة الظاهرة.. وللحديث صلة.
                                   
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 ديسمبر 2013

Thursday, 21 November 2013

اليد المرفوضة

 
لوحة معبد الكرنك لأرنست كارل إيوجين كورنر
لا أتصور أن يبلغ ضعف الذاكرة بالبعض حدا يمكن اعتباره نسيانا عمديا يدخل في باب الاستهبال بالمعني العامي الدارج‏..‏ أي معرفة الحقيقة وادعاء عدم الإلمام بتفاصيلها،‏ أي ـ وبالمعني العامي الدارج أيضا ـ الغطرشة عليها‏!
يتعمد البعض نسيان حقيقة أن الإخوان المسلمين وهم في قمة الحكم رئاسة ووزارة، هم الذين بادروا برفض الآخر بمن في ذلك إخوانهم في تيار التأسلم السياسي، وأعني بهم السلفيين في المقام الأول. ومن ينصت إلي تصريحات قيادات من وزن ياسر البرهامي يعرف أن جسور الثقة كانت مدمرة بل وغير موجودة من الأساس مع الإخوان! والمذهل المفجع أن أولئك البعض يتعامون عن مظهر شديد الدلالة علي رفض الآخر، أي رفض التعدد علي إطلاقه بمن فيهم الأصدقاء والحلفاء وأقصد به ما حدث داخل القصر الرئاسي نفسه بعدما عين محمد مرسي مساعدين له وعين هيئة استشارية حافلة بأسماء رنانة بعضها محترم بحق! ثم إذا بالمستشارين يجدون أنفسهم بلا وظيفة وبلا مهام وحتي الذين أصروا منهم علي استمرار القبض علي جمر البقاء، حرصا علي الوطن وعلي سمعة الديمقراطية وسمعة الإخوان لم يجدوا مفرا من الاستقالة، وفي مقدمتهم الدكتور سيف عبدالفتاح الذي كان بينه وبين كاتب هذه السطور مساحة ود سمحت بتبادل الآراء، سواء عندما كنا في مهمة مشتركة تولي هو قيادتها وهي المجلس الوطني للعدالة في مرحلة وزارة عصام شرف وبعدها بقليل أو عندما كنا نتقابل، وقد سمعت منه عن الإخوان وقياداتهم ومنهجهم ما أود الاحتفاظ به الآن لحين الكتابة عن ظاهرة المثقفين والأساتذة الذين يمارسون الخطاب المزدوج وإعانة الظالم علي ظلمه وليس نصحه بالكف عنه!

وكذلك كان حال المساعدين عدا واحدة بقيت ولم تفلح في عملها أو علي الأقل لم تفلح في المهمة التي تصدت لها، وهي إعادة تشكيل وتفعيل المجلس الوطني للعدالة، وكنت حاضرا في اجتماع برئاستها وعلي يمينها أستاذها سيف عبد الفتاح وربما كان النجاح الوحيد هو إحضار قائمة لذيذة من ساندوتشات الرئاسة الشهيرة فيما كنا نطمع في مد أسمطة المضبي والمندي والكبسة وبقية الأطايب التي اشتهر بها القصر تحت قيادة مرسي، وكان الجلوس أرضا كما تواترت الروايات عن رواة موثوقين!

رفض الإخوان التعدد مع غيرهم عندما بدأوا وبسرعة مذهلة في إزاحة من ليس منهم في المواقع المهمة ببعض الوزارات والهيئات، ووضع رجالهم ونسائهم في هذه المواقع وبالمئات بصرف النظر عن الكفاءة والخبرة والمؤهل! بل وصل الأمر إلي أن تتقمص قياداتهم ونموذجها الأبرز، عصام العريان، دور رجال الحكم فيتوقفوا عن مجرد الاستمرار في العلاقات الودودة الطيبة مع غيرهم من المنتمين لتيارات سياسية أخري، وقد كان الإخوان ـ والعريان وعلي عبدالفتاح نموذجا ـ يبادرون بالتواصل لحد الإزعاج، وخاصة عندما كانت الدعوة توجه للقاءات بحضور المرشد محمد بديع!!

رفض الإخوان التعامل الجدي مع الآخر في هذا الوطن، عندما حرصوا علي نكث تعهداتهم التي بدأت بإعلاناتهم المتكررة عن المشاركة وليس المغالبة، وأنهم لن يرشحوا أحدا للرئاسة وهلم جرا، وإذا بالأمر يتحول مباشرة إلي مغالبة فجة وإلي رئيس لا يصلح للمهمة وإلي سيطرة شبه كاملة علي المجلس النيابي بفرعيه، وعندما احتدمت المشاكل وحدث شبه إجماع وطني علي ضرورة الاستفتاء علي موقع الرئاسة، وكان ذلك نتيجة الأخطاء الجسيمة القاتلة في حق الوطن، أمنا واقتصادا وخدمات وغيره، وارتبط ذلك بشبه إجماع وطني آخر علي تغيير الوزارة وخاصة هشام قنديل، تمادي الإخوان في الرفض وهونوا من شأن هذا الإجماع واعتبروا أن30 يونيو زوبعة سرعان ما ستهدأ وأن اليوم سيمر مثل غيره من الأيام.. ومازلت أذكر هنا وجه عصام العريان الضاحك بسخرية من تمرد ومن30 يونيو! وقد استمر رفض الإخوان إلي أن بادر وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة وقدم مبادرات للخروج من الأزمة، وقدم تحذيرات من المآل الذي يمكن يئول إليه الوطن.. ولكن لا حياة لمن تنادي.

هكذا هو حال البعض في الاستهبال السياسي لدرجة التباكي علي الديمقراطية وعلي الحوار وعلي حق الإخوان في المشاركة، وهنا تعالوا نسأل بعضنا بعضا: من منا يقبل بمن يمسك سلاحا ناريا ويصوبه ملتصقا إلي رأسه ويطلب الحوار؟!! ومن ذلك الذي يقبل بمن يرفض احترام الدين الذي ينتمي إليه ويرفض احترام المذهب الذي يتبعه ويرفض احترام منهج تفكيره في العلاقة مع الله وعلاقته مع المجتمع، ثم يأتي هذا الذي يرفض كل ذلك ويطلب الحوار والتفاهم.. وهو لم يعلن عن تغيير مواقفه ولا حتي عن نيته في مناقشة هذا التغيير؟!

إن ذلك البعض من متعمدي النسيان يتعمدون أيضا الغطرشة علي أن أصل الحكاية ليس هو الشرعية والانقلاب وكل هذه الأسطوانة المشروخة الزائفة، وإنما أصلها فعلا هو الصراع التاريخي ذو الأبعاد الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مشروعين محددين، طالما حاولت الكتابة لأوضح أبعادهما: مشروع النقل المتمسك بمتون ونصوص معينة ليست هي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولكنها كتابات لبشر مثل حسن البنا والمودودي وابن تيمية والألباني وغيرهم، يؤخذ منها ويرد بل ويمكن تجاهلها كلها ولن يتأثر مسار الإسلام ولا حياة المسلمين، ومشروع العقل المتمسك بالتعامل المنهجي العلمي مع كل مناحي الحياة، لأنه حيثما تكن مصلحة الأمة فهناك شرع الله، هذه هي الحكاية ببساطة من أمس وإلي اليوم وستستمر إلي الغد القريب والبعيد إلي أن تحسم لصالح الأمة!

إن أي حر شريف لابد أن يرفض تلك اليد الممدودة حتي يسقط السلاح الناري والأبيض من اليد الأخري.. لأنه سلاح حقيقي لا مجازي يتراوح بين السكاكين وبين المسدسات والبنادق الآلية إلي الجرينوف والآر بي جي والصواريخ المضادة للطائرات! وعندها من الوارد أن يفكر أي حر شريف في أن يستقبل تلك اليد الممدودة، ولكن المعضلة الكبري ستبقي هي أنه حتي في حال التخلي عن السكاكين والقنابل فإن التخلي عن أسلحة العمل السري والتآمر وإلغاء الوطنية وتكفير الآخر المختلف والمناورات والكذب والخداع والخيانة سيكون أمرا صعبا علي من ذاق ثمار هذه الأسلحة وكيف أوصلته إلي عرش مصر المحروسة في غفلة من الزمن.
                                
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21 نوفمبر 2013

Thursday, 7 November 2013

بلي‏..‏ ورب الكعبة




صديقي الأوروبي الذي تنتمي أسرته لإقليم بوهيميا‏، ويعيش منذ مولده في العاصمة النمساوية فيينا‏، له اطلاع واسع علي الشأن الحضاري والثقافي العربي والإسلامي‏، وعلي مجريات الأحداث في البلاد العربية، خاصة التي شهدت ثورات شعبية منذ.2011.

وعبر اهتمامه واطلاعه صارحني متحرجا ومعتذرا مسبقا، فبدا حرجه واعتذاره المسبقان وكأنهما من انعكاس آدابنا ومسلكياتنا الشرقية عليه، وقال: لقد تأملت ما يجري عندكم ووجدت أنكم بالفعل تعيشون زمانكم، لأن تقويمكم الهجري هو بداية الثلث الثاني من القرن الخامس عشر.. بما يماثل أحوال أوروبا في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي! وعجبت ـ الضمير سيظل عائدا علي صديقي النمساوي حتي أنبه القارئ إلي تغيير في صاحب الضمير ـ من أنك ـ ويقصدني أنا كاتب هذه السطور ـ ومعك صفوف واسعة من النخبة المصرية والعربية تحاولون التعسف مع هذا الظرف التاريخي بكل مكوناته وتدعون إلي سيادة الأفكار التنويرية والتحديثية المعاصرة، وفي هذا تجن غير عقلاني علي مجتمعكم!

وأضاف صديقي المواطن النمساوي الأوروبي متسائلا: لماذا لا تقبلون بأن حرق المراحل التاريخية والقفز عليها بتجاهل مقوماتها والغفلة عن معطياتها هو جهد ضائع، وأخطر ما يؤدي إليه هو ضياع مضامين تلك الأفكار التنويرية والتحديثية ونفور المجتمع منها، لأن المعلوم تاريخيا هو أن المجتمعات تميل إلي الاستقرار علي ما ارتاحت وسكنت إليه من أفكار وطرق تفكير، حتي وإن ثارت ضد الظلم والاستبداد. قلت لصديقي الأجنبي: زدنا مما أعطاك عقلك!

فمضي الرجل شارحا: لقد فاتكم ـ كنخبة مصرية وعربية ـ أن وصول بعض المجتمعات الأوروبية إلي عصر النهضة والتنوير والحداثة وظهور تجلياته، وأبرزها بقاء الاعتقاد الديني علاقة ذاتية بين الإنسان وخالقه دون وصاية من أحد، وبالتالي الفصل بين الكهنوت ورجال الدين والمرجعيات التي تتصل بالكنيسة وتراثها اللاهوتي وبين مجريات الحياة العامة كان وصولا متصلا بتطورات أخري في العلم والتطبيق العلمي وفي الاقتصاد وفي العلاقات الاجتماعية!، إننا ـ الضمير عائد علي صديقي لم نقفز فجأة من السيطرة الكهنوتية اللاهوتية إلي الدولة المدنية الحديثة لمجرد انتقاد رجال الدين ونقض المرجعيات اللاهوتية، ولكننا عبرنا عقودا طويلة لننتقل من مرحلة الإقطاع والاقتصاد العيني إلي المرحلة البرجوازية والاقتصاد النقدي، ولم يكن التحول بمعزل عن ثورات اجتماعية سياسية وأخري علمية وتقنية وثالثة فلسفية وفكرية.. وخضنا حروبا دينية طويلة وحروبا أخري ضارية حول المجالات الحيوية ومناطق النفوذ وتصادم المصالح والأدوار، وواجه روادنا الطبيعة فذهبوا إلي ما وراء البحار وداروا حول الأرض، واكتشفوا قارات لم تكن معروفة لنا من قبل.. إلي آخر ما عاشته أوروبا من تحولات هائلة عبر عصرها الحديث الممتد من القرن الخامس عشر إلي القرن العشرين!

واستطرد صديقي: إن مجتمعكم في مرحلة تاريخية، يمثل الإخوان المسلمون والسلفيون ومن لهم مرجعياتهم نفسها بمن في ذلك الزاعمون بأنهم صوت التنوير والحداثة الإسلامية وهم معروفون، أصدق تعبير سياسي وثقافي عن تلك المرحلة التي درج البعض علي أن يصفها بالتخلف.. لأنها مرحلة تشيع فيها وبقوة منظومات فكرية وقيمية تنتسب حقا للعصور الوسطي الأوروبية وحتي مطلع وربما منتصف القرن السادس عشر!.. وبدأ صاحبي الأوروبي النمساوي يسألني أسئلة تقريرية من قبيل ألستم تعيشون في مجتمع يؤمن بالخرافة التي هي أمر آخر غير الغيبيات الإيمانية، ويؤمن بالتواكل وهو غير التوكل ولا ينتصر لقيم العمل والإنتاج والتنظيم والنظافة واحترام المال العام واحترام مكانة ودور المرأة ولا يعترف للآخر المختلف دينيا، بل وحتي مذهبيا بحقوق مماثلة لمن ينظرون لأنفسهم علي أنهم الأغلبية، بل ويعمل علي مصادرته والاعتداء علي دور عبادته وممتلكاته.. أوليست الرشاوي العينية والنقدية هي أبرز عامل يحسم الانتخابات، ويقوم بها من يتصدرون المشهد باعتبارهم تجسيدا للإسلام بعقيدته وشرعيته، يعني رجال دين مثل كهنوت أوروبا العصور الوسطي بطريقة أو أخري؟!

واستمر صاحبي في سرد أسئلته التقريرية حتي وصل إلي أن تساءل مقررا: أليست الرموز التي تصورتهم أنها فتح مبين في سيرة الدعوة الإسلامية خاصة والحياة الثقافية بوجه عام، هي من يقود الآن حملات ضرب وتقويض دور جيشكم الوطني وتشويه تاريخه، وتقود معارك التشكيك في عقائد الآخرين، وفي اتهام المسيحيين بأنهم يتآمرون علي الوطن، بل وفي توجيه تهم العمالة لأجهزة الأمن لكل من يخالفهم الرأي أو يسعي لكشف تهافت دعاواهم، التي ثبت أنها مزيفة وأنها لا تختلف في جوهرها عن دعاوي قيادات لتكوينات السلفية والجهادية وغيرها؟

قلت من جانبي: بلي.. ورب الكعبة إن عندنا ما تتساءل عنه وأكثر!

قال صاحبي الأجنبي: إذن لماذا استكثرتم علي الإخوان المسلمين أن يكونوا التعبير السلطوي الحاكم عن هذا التخلف الضارب في كل مكان؟!
                              
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 نوفمبر 2013